يَا أُخْتَ هَارُونَ …. منى زيتون

يَا أُخْتَ هَارُونَ
في سورة مريم، وفي سياق ما روى لنا الحق تبارك وتعالى عن موقف بني إسرائيل من السيدة مريم ابنة عمران بعد أن ولدت السيد المسيح و﴿َأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: 27]، نجدهم يخاطبونها بقولهم: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: 28].
ونجد مفسرينا قد اختلفوا بينهم فيمن يكون هارون المقصود في الآية، فتارة هو رجل صالح من بني إسرائيل شبهوها به في صلاحه، وتارة أنه رجل من عشيرتها اسمه هارون -ليس بهارون أخي موسى- كان مشتهرًا بالصلاح. فالأمر عندهم ليس أكثر من أن اسمًا واطأ اسمًا.
وأعتقد أن هذا النفي لأن المعني في الآية هارون النبي أخي موسى الكليم غريب لسببين؛ أولهما: أن المسلمين لا يعرفون هارونًا غيره يستحق أن يُذكر اسمه في كتاب الله، حتى يكون تذكير مريم بصلاحه ذو معنى، بينما المفترض أنها هي من يشهد لها القرآن بالصلاح وأنها المصطفاة على نساء العالمين، وثانيهما: أن هذا النفي يخالف ما يدل عليه لسان العرب؛ فأخو القوم –ببساطة- أي أنه منهم، سواء من أنفسهم أو من مواليهم!
يقول تعالى: ﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: 65]، [هود: 50]. و ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: 73]، [هود: 61]. و ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ [الأعراف: 85]، [هود: 84]. وكان العرب يقولون عند تحية بعضهم بعضاً “عمت صباحاً يا أخا العرب”، فالأخ هو الواحد من الجماعة التي ينتمي إليها، وجميع البشر هم إخوة من آدم.
وبذا فإن المعنى البديهي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ لـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أن مريم من نسل هارون النبي عليه السلام، فيكون المقصود إجمالًا بالآية: “يا سليلة النبي هارون ما هذا الذي اقترفتيه؟” عندما ظنوا بها السوء لما جاءتهم حاملة المسيح عليه السلام وليداً.
ولمن لا يعلم فإن بني إسرائيل هم أبناء يعقوب النبي عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدًا، نال منهم النبوة ابنه يوسف عليه السلام، ثم إن جميع أنبياء بني إسرائيل من بعد يوسف جاءوا من نسل باقي إخوته الأسباط الباقيين، ولم يُبعث نبي قط من نسل وسبط يوسف، ولما بعث رب العزة موسى الكليم إلى بني إسرائيل –وموسى من سبط لاوي- انقطعت النبوة في نسل موسى رغم أنه أصل الديانة اليهودية، وجميع أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى من سبط لاوي جاءوا من نسل أخيه هارون وليس من نسل موسى. أما داود عليه السلام وابنه سليمان فمن سبط يهوذا. ولكن، ما علاقة هذا بالخطاب القرآني للسيدة مريم بـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾؟
أرى أن لنفي المعنى البدهي بأن السيدة مريم من نسل هارون النبي سببًا رئيسيًا، وهو ما أورده الإمام الطبري في تفسيره قال: “حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين، قال: نُبئت أن كعبًا –يعني كعب الأحبار- قال: إن قوله ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، قال: فسكتت.”.
فكان تفسير كعب الأحبار مصدره الإسرائيليات كما نعلم، وظاهره أنه ينفي أن تكون مريم من نسل هارون فتُنسب إليه لتباعد المدة بين موسى وهارون من جهة وبين مريم والمسيح من الجهة الأخرى، ولكن ما يخفى على كثير من المسلمين أن التوراة –التي بين أيدي الأحبار- تتنبأ أنهم بانتظار الأمير من نسل داود، وليس من نسل هارون. وقد وافقت الأناجيل النبوءة التوراتية فذكرت أن السيدة مريم والسيد المسيح من نسل داود، وذلك لعدم مخالفة ما جاء في التوراة وإدعاء أن النبوءة قد تحققت في المسيح عليه السلام.
فكأن الله تعالى أراد في هذا الخطاب القرآني ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أن يصحح لنا نسب السيدة مريم، وأنها ليست من نسل داود كما يذكر أهل الكتاب، وإنما هي من نسل هارون، لكن كعب الأحبار أراد أن يوفق بين ما يعرفه من كتب بني إسرائيل وما أُنزل في القرآن، فنفى أن يكون المقصود هارون النبي وهو ما تناقله عنه المسلمون. وزاد على هذا ما رُوي عن المغيرة بن شعبة بأن رسول الله أخبره أنهم كانوا يسمون بأسماء الصالحين منهم، ولكن هذه الرواية لم تكن أساس النفي، ولولا قول كعب الأحبار لكان التشكيك فيها أولى.
وهذا الرأي قد تكون عندي منذ سنوات بعد مراجعتي لما ذكر أهل الكتاب عن نسب السيد المسيح، وسبق لي نشره على مدونات الفيسبوك، وقد وسرني أثناء مراجعة المقالة أنني وجدت له أصلًا –وإن كان ضعيفًا-، ذلك أنني بإعادة مراجعة ما ذكر الإمام الطبري في تفسيره للآية وقعت على كلمة في الختام ذكر فيها الإمام “وقال بعضهم: عنى به هارون أخو موسى، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده، يُقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر.”.