الابتعاد عن اللغة الأم هو ابتعاد عن تاريخ كامل من الحضارة

إن الابتعاد عن اللغة الأم هو ابتعاد عن تاريخ كامل من الحضارة، وإن جهل هذه اللغة هو جهل بالماضي، ولا مستقبل لمن لا ماضي له!
فكيف يمكن إدراك واقعنا الاجتماعي بدون لغتنا؟ وكيف يمكن أن نستعمل لغة أخرى دون أن ننفصل عن واقعنا الاجتماعي؟!
لا خلاف أن الضرر جسيم من عدم استخدام اللغة العربية؛ خصوصًا في التعليم والتعليم العالي، وكما قال الدكتور نزار الزين: “إن التقصير في تعريب التعليم العالي؛ يحملنا على أن نظل في ضبابية تجاه واقعنا الاجتماعي والنفسي، لا نستطيع أن نقدره أو نقومه تقويمًا صحيحًا ولعلنا بعدم تعريب التعليم العالي نخطط لعدم تنمية مجتمعنا”.
إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، إلى عالمها الذي يبدو متخلفا، ليس ذلك فحسب ، بل إن محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسيا أمام الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية، بحيث قد تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت صفوة المشتغلين بالعلوم تعرف الإنجليزية أو الفرنسية مثلا، فلا بأس أن نعزل العربية.
فاللغة العربية تتمتع بمرونةٍ هائلة، واتتها بفضل الاشتقاق الذي لم يبلغ في لغة من اللغات مبلغه في العربية من سعةٍ وانضباط واطراد، هذه المرونة التامة في اللغة العربية، وهذه القدرة على الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت، هو ما مكنها من أن تكون لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما فيهما من معانٍ رفيعة سامية، وتعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية،
ولم يكن للعرب بها عهد في جاهليتهم، كما استطاعت بعد ذلك أن تكون أداةً لكل ما نُقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم، وبهاكذا خرجت العربية من هذا المأزق سليمةً قوية واسعة، هي لغة الدين، ولغة العلم والفلسفة، ولغة الأدب، واضمحلت بجانبها كل لغات البلاد المفتوحة.
عاصم الشريف



