نداء العبور.. كيف دوى صوت “هنا القاهرة” ليعلن لحظة المجد في السادس من أكتوبر؟
أسماء صبحي – في صباح السادس من أكتوبر عام 1973 لم يكن المصريون يستيقظون على يوم عادي، بل على لحظة خالدة أعادت إليهم الكبرياء والعزة بعد سنوات من الحزن والانكسار. ففي تمام الثانية والربع ظهرًا دوى من الإذاعة المصرية ذلك الصوت الذي زلزل الوجدان الجمعي: “هنا القاهرة”. تزامنًا مع انطلاق مارش النصر العسكري الذي كان إيذانًا ببدء ملحمة العبور واستعادة الأرض والشرف.
ذلك اليوم لم يكن مجرد صفحة في التاريخ بل كان لحظة بعثٍ للأمة العربية بأكملها. حين تحولت كلمات الإذاعة إلى رصاصات أمل وصرخات عزيمة حملت جيش مصر على جناحي النصر.
البيانات العسكرية في السادس من أكتوبر
لم تكن البيانات العسكرية التي أذيعت في يوم العبور مجرد أخبارٍ ميدانية بل كانت جزءًا أصيلًا من خطة الخداع الاستراتيجي التي أبدعها العقل العسكري المصري. ففي غرفة عمليات القوات المسلحة، كانت البيانات تصاغ بعناية فائقة بناءً على التقارير الواردة من الجبهة. ثم تنسق عبر إدارة التوجيه المعنوي لتخرج إلى الشعب بصوت يحمل الثقة والانتصار من داخل مبنى ماسبيرو.
كل بيان كان يحمل رسالة دقيقة من القيادة العامة إلى الشعب يوازي وقعها تأثير المدافع على العدو. لتتحول الإذاعة المصرية إلى جبهة أخرى من جبهات القتال، حيث الكلمة كانت سلاحًا يعادل المدفع في قوته وتأثيره.
البيان الأول – 2:15 ظهرًا
افتتح بصوت المذيع حلمي البلك ليعلن أن العدو هاجم قواتنا في منطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس، في محاولة ذكية لإيهام العالم بأن مصر في موضع الدفاع. لكن الحقيقة كانت مغايرة تمامًا، ففي تلك اللحظة كانت القوات الجوية المصرية تنفذ أضخم ضربة عسكرية ضد مواقع العدو في سيناء فاتحةً صفحة جديدة من التاريخ.
البيان الثاني – 2:35 ظهرًا
بعد دقائق من البيان الأول، دوى الصوت من الإذاعة: “ردًا على العدوان الغادر الذي قام به العدو ضد قواتنا. تقوم بعض من تشكيلاتنا الجوية بقصف قواعد وأهدافه العسكرية في الأراضي المحتلة”. وكانت هذه الجملة كشرارة أطلقت الفرحة والدموع في آن واحد معلنة أن مصر لم تعد تنتظر الهجوم بل بدأت تكتب النصر بيديها.
السماء المصرية استعادت هيبتها، والشعب أدرك أن يوم الكرامة قد بدأ بالفعل.
البيان الثالث – 3:00 عصرًا
“نفذت قواتنا الجوية مهامها بنجاح، وأصابت مواقع العدو إصابات مباشرة، وعادت جميع طائراتنا إلى قواعدها سالمة عدا طائرة واحدة. بهذه الكلمات القصيرة استعادت مصر ثقتها المفقودة منذ نكسة 1967. وكان الخبر بمثابة ولادة جديدة للروح المصرية التي ظلت لسنوات تبحث عن لحظة الثأر، لتجدها في ذلك اليوم المجيد.
البيان الرابع – 3:30 عصرًا
“حاولت قوات معادية الاستيلاء على جزء من أراضينا غرب القناة… فقامت قواتنا البرية بهجوم ناجح واقتحمت قناة السويس وطاردت العدو إلى الضفة الشرقية”. كان هذا البيان بمثابة إعلان غير مباشر للعبور إذ بدأ الجميع يدرك أن الجيش المصري تجاوز قناة السويس وأن حلم تحرير الأرض لم يعد بعيدًا.
البيان الخامس – الرابعة عصرًا
“نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة، ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة”. تلك اللحظة كانت انفجار الفرح الوطني. فخرجت الجماهير إلى الشرفات والميادين، اختلطت الزغاريد بالدموع، وارتفع صوت المارش العسكري من الإذاعات والمقاهي، بينما علت صيحات “الله أكبر” في كل بيتٍ مصري. لقد تحقق العبور الحقيقي من الهزيمة إلى النصر.
البيان السادس – 4:40 عصرًا
أعلنت القيادة أن العدو دفع بطيرانه في محاولة يائسة لوقف التقدم المصري إلا أن مقاتلات مصرية تصدت له وأسقطت 11 طائرة للعدو مقابل فقدان 10 طائرات فقط.
كانت تلك المعركة الجوية أول اختبار حقيقي لقوة سلاح الجو المصري بعد الضربة الأولى وأثبتت أن السماء المصرية أصبحت ساحة انتصار جديدة.
البيان السابع – 5:45 مساءً
“نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة وتم الاستيلاء على الشاطئ الشرقي بالكامل وتواصل قواتنا القتال بنجاح”. أكد البيان السابع اكتمال خطة العبور، وبين أن قواتنا البحرية تولت تأمين الساحل الشمالي وضرب الأهداف المعادية في شمال سيناء إصابات مباشرة.
لقد اكتمل مجد أكتوبر، وتحول الميكروفون من وسيلة نقل إلى رمز وطني للمقاومة حيث امتزج صوت الإذاعة بنبض الجنود على الجبهة.
مارش النصر
لم يكن المارش العسكري الذي انطلق من أثير الإذاعة مجرد موسيقى، بل كان نبض وطنٍ يعود إلى الحياة. فكل نغمة كانت تروي قصة جندي عبر القناة وكل كلمة من “هنا القاهرة” كانت تزرع الأمل في القلوب. لقد تحولت الإذاعة المصرية في تلك الساعات إلى جبهة قتال إعلامية لا تقل أهمية عن ميادين الحرب. حيث كانت تصيغ بالتوقيت والدقة سيمفونية النصر الخالدة التي ستظل رمزًا خالدًا لإرادة المصريين وعزيمتهم التي لا تنكسر.



