عادات و تقاليد

التحكيم العرفي في صعيد مصر.. قضاء شعبي يحفظ السلم الأهلي

أسماء صبحي– يعرف صعيد مصر بتقاليده الراسخة التي تشكل جزءًا من نسيج الحياة اليومية. ومن بين هذه التقاليد التي حافظت على استمراريتها منذ مئات السنين تأتي عادة التحكيم العرفي بين القبائل والعائلات. وتعد هذه العادة شكلًا بديلًا للقضاء الرسمي يحكمها العرف والأعراف المجتمعية التي تمجد قيمة الصلح وتعلي من شأن كبار العائلات و”العمد” و”المصلحين”. في ظل تعقيد الإجراءات القانونية وتكدس القضايا في المحاكم. بات التحكيم العرفي ملاذًا سريعًا لحل النزاعات، سواء كانت خلافات على الأراضي أو الثأر أو قضايا الشرف.

جذور عادة التحكيم العرفي 

هذه العادة ليس وليد اللحظة بل هو تقليد ضارب في أعماق التاريخ المصري. خصوصًا في مناطق الصعيد الممتدة من المنيا وأسيوط إلى الأقصر وأسوان. وقد نشأ هذا النظام كبديل شعبي للقضاء عندما كانت المحاكم الرسمية بعيدة جغرافيًا أو بيروقراطية الإجراءات بطيئة.

ولأن القبائل والعائلات الصعيدية تقدر قيمة السمعة وتضع “الستر” والسلام الاجتماعي في المقام الأول. كان لزامًا أن تجد وسيلة فعالة لحل النزاعات دون تفاقمها أو نشرها في ساحات القضاء العلني.

تبدأ عملية التحكيم بإرسال “المراسيل” بين الطرفين المتخاصمين، وهؤلاء عادة من الوجهاء أو كبار السن المعروفين بالحكمة. ثم يتم اختيار “القيم” أو “الحكم” وهو شخص يحظى بثقة الجميع ويملك خبرة طويلة في الأعراف القبلية والعُرف المحلي. وغالبًا ما ينظم مجلس صلح علني يدعى إليه وجهاء العائلات ويستمع فيه إلى أقوال الطرفين. مع توفير “الضمان” أو “الكفيل” الذي يلتزم بضمان تنفيذ الحكم العرفي.

بعد دراسة التفاصيل، يصدر الحكم حكمه النهائي الذي يكون ملزمًا للطرفين. ويكتب في وثيقة تعرف باسم “القعدة” أو “الشرط” ويوقع عليها الشهود من الطرفين. وقد يتضمن الحكم مبالغ مالية أو شروطًا اجتماعية مثل “الإبعاد” أي مغادرة أحد الأطراف للبلدة لفترة زمنية معينة تهدئة للأوضاع.

أنواع القضايا التي يبت فيها

لا يقتصر هذا التحكيم على الخلافات البسيطة، بل يمتد إلى:

  • قضايا الثأر: وهي الأخطر والأكثر تعقيدًا، حيث يتم فيها التفاوض على “الدية” أو “القودة”.
  • خلافات الأراضي: خاصة الحدود بين ملكيات زراعية متجاورة.
  • المشاجرات: التي قد تنجم عنها إصابات أو تهديدات بالقتل.
  • قضايا العرض والشرف: وتعد من أكثر القضايا حساسية. ويحسم فيها الأمر غالبًا بالإبعاد أو الطلاق العرفي.

ويقول الدكتور حسن عبد الرحيم، أستاذ علم الاجتماع الريفي بجامعة جنوب الوادي، إن التحكيم العرفي في الصعيد يمثل نموذجًا فريدًا للعدالة المجتمعية. وقد أثبت فعاليته في حفظ السلم الأهلي وتقليل نسب الجريمة خاصة في ظل بطء المنظومة القضائية. لكنه لا يخلو من إشكاليات تتعلق بغياب الضمانات القانونية خاصةً في القضايا التي تمس حقوق النساء أو الأطفال.

ويضيف الدكتور حسن أن بعض القرى أصبحت تنظم وثائق الصلح العرفي بالتعاون مع مأموريات الشرطة. لضمان الاعتراف الرسمي بها وتقليل فرص الخلاف مجددًا.

ارتباطه بالهوية والعرف القبلي

ترتبط هذه العادة بهوية القبائل والعائلات في الصعيد. وتعتبر من مظاهر “الرجولة” و”الحكمة” أن يلجأ إلى شخص معين للفصل في القضايا. وقد أفرز هذا النظام أسماءً شهيرة تلقب بـ”رجال القعدة” أو “حكام العرف”، وهم بمثابة قضاة شعبيين يحظون باحترام واسع.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت الدولة المصرية تتعامل مع التحكيم العرفي بوصفه شريكًا مجتمعيًا في حفظ الأمن. خاصةً في المحافظات التي تشهد نزاعات ثأرية أو طائفية.

وقد أطلقت وزارة الداخلية عدة مبادرات بالتعاون مع مشايخ القبائل وممثلي المجالس العرفية لتقنين عمل “القعدات” وضمان توافقها مع القانون.

كما ظهرت مبادرات محلية لتوثيق “الأحكام العرفية” في دفاتر خاصة والتنسيق مع مجالس محلية لضمان تنفيذها. خصوصًا عندما تتعلق بتعويضات مادية أو بنود إبعاد الأشخاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى