د. حسن أحمد حسن يكتب: مَنْ الأكثر خوفاً من اندلاع الحرب الكبرى؟
من حقّ المتابع العادي لتطور الأحداث وتداعياتها أن يتساءل عن توقيت محتمل لانقشاع بعض الضباب الذي يحجب الرؤية عن التبدلات البنيوية التي تطرأ بشكل متسارع على مكونات الصورة العامة لحاضر المنطقة ومستقبلها القريب على أقلّ تعديل، وكلما تزاحمت الأسئلة المتناقضة بتركيبتها، وتشابكت احتمالات الإجابة عليها كلما ازداد الضباب كثافة، واختلط الداخلي بالإقليمي بالدولي، وهذا بحدّ ذاته يشكل هاجساً مشروعاً للتخوف من إمكانية خروج الأمور عن السيطرة والذهاب نحو هاوية سحيقة القاع في أية لحظة، وقبل المضي في تكوين تصور عام عن الواقع الكارثي المحتمل سرعان ما تفرض تساؤلات أخرى ذاتها، وتأخذ المتابع إلى ضفة أخرى، إذ أنّ كلّ ما حدث ويحدث، أو قد يحث إنما هو مرتبط بشكل أساسي بالعدوانية الإسرائيلية والتوحش الذي يحكم أداء حكام تل أبيب، فمخرجات الصراع الذي اقترب من الذروة مع ملحمة طوفان الأقصى وما تلاها تؤكد أنّ سمَّ الأنياب التي اعتادت نهش لحم الأبرياء بدأت تشقّ طريقها إلى جسد الكيان المؤقت بجميع أجهزته ومكوناته، وهذا يعني اضطرار القتلة ومصاصي الدماء للإذعان إلى ما يفرضه الميدان من حقائق تتبلور وبوتيرة وتسارع يفوقان قدرة حكومة نتنياهو وداعميها على التعامل مع التداعيات، وهذا بحدّ ذاته يهدّد بفقدان القدرة على ضبط الإيقاع، أو تراخي القبضة المسؤولة عن ذلك ارتباطاً بتسارع تآكل الهيبة والردع من جهة، وبازدياد التناقضات الداخلية وهول الصدمة التي يعاني منها الداخل الإسرائيلي على امتداد تسعة أشهر، وبشكل لم يسبق له مثيل منذر فرض وجود هذا الكيان المصطنع عام 1948م.
إذا أردنا الاحتكام إلى الواقع القائم وحقائقه بعيداً عن العواطف والأمنيات والنزعات الرغبوية نجد العديد من المؤشرات والقرائن الدالة على أنّ حكومة نتنياهو تتخبّط في شر أعمالها، وتذعن من وقت لآخر إلى الاعتراف بمرارة ابتلاع ما تبلور حتى الآن من عجز عن الاستمرار بركوب الرأس ونطح الجدار الذي لا يؤدي إلا إلى غزارة النزف وسرعة تآكل ما تبقى من متطلبات البقاء والحفاظ على وجود الكيان، ولهذا أرغموا على الاعتراف بأنّ الحرب الحالية حرب وجود بكلّ ما تعنيه الكلمة، وهنا يمكن الإشارة السريعة إلى العديد من النقاط المهمة التي لا يمكن إغفالها، ولا القفز فوق تداعياتها الحتمية، ودلالاتها المقلقة للكيان السرطاني حكومة وجيشاً ومستوطنين، ومنها:
*الإعلان عبر الإعلام الإسرائيلي الرسمي عن إقدام نتنياهو على تقييم الوضع الأمني الذي يعصف بكيانه، سواء على جبهة غزة، أو على الجبهة الشمالية أي في مواجهة حزب الله، وما فرضته المقاومة من قواعد اشتباك لم يفلح جيش الاحتلال في التهرّب من أحكامها، ولا كسر روافعها التي تزداد قوة مع كل يوم يمرّ، واللافت في الأمر أنّ التقييم المذكور لدى نتنياهو يتمّ بمشاركة العديد من المسؤولين رفيعي المستوى في الجهاز الأمني والجيش، ومنهم: وزير الحرب يوآف غالانت ــ رئيس هيئة الأمن القومي: تساحي هنغبي ــ رئيس الأركان: هرتسي هاليفي ــ قائد المنطقة الجنوبية: العميد يارون فينكلمان ــ قائد سلاح الجو: العميد تومر بار ــ رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية: العميد المستقيل أهارون حاليفا، وكذلك رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، وقائد الذراع البرية ومنسق العمليات في المناطق وعدد من قادة الفرق، وهذا يؤكد حقيقتين أساسيتين:
1 ـ الاعتراف رسمياً بالعجز حتى الآن عن تحقيق أي من الأهداف التي تم الإعلان عنها، والخشية من الوصول إلى نتائج محتملة تفوق طاقة تل أبيب على تحمل تداعياتها والتعايش معها كأمر واقع، وكمفرز حتمي من مفرزات الفشل الميداني والإخفاق العسكري والسياسي والدبلوماسي والإعلامي بما قد يجعل الكيان أمام «شهادة وفاة سيوقع عليها اللذان سيدمّران الدولة.. نتنياهو ودرعي” وفق ما نشرته صحيفة هآرتس الصهيونية.
2 ـ البحث عن مخارج من الاستعصاء المزمن الذي تزداد مخاطره وتهديداته مع كلّ ساعة تمر، وانسداد الأفق أمام أية آمال ممكنة قد تحملها الأيام المقبلة، فضلاً عن التسليم باستحالة فصل جبهة غزة عن بقية جبهات الإسناد التي وضعت الكيان وداعميه بين مطرقة العجز عن الإنجاز وسندان الصمود والقدرة على إيلام العدو بأشكال مختلفة تعددت مظاهرها وتجلياتها بتعدد أطراف محور المقاومة وجبهات الإسناد المصممة على الاستثمار فيما تم تحقيقه من إنجازات ميدانية نوعية لا أحد يستطيع نكرانها.
*إذا كان جيش الاحتلال يقاتل على سبع جبهات وفق اعترافات جنرالاته وقادته، فالجبهة الداخلية الخاصة بالكيان تفتح أيضاً جبهات متعددة على هذه الحكومة العنصرية المتطرفة التي تحمل معها نذر القضاء على الوجود بكلّ ما تعنيه الكلمة، وما لم يتمّ تعديل المقاربات فالنتيجة الحتمية هي قيادة الكيان للانتحار وفق اعتراف كبار المسؤولين الصهاينة، واستطلاعات الرأي التي تجريها وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤكد ذلك، وإلا كيف يمكن تفسير أن 66% من المستطلعة آراؤهم يشدّدون على إسقاط حكومة نتنياهو وحلها، وعدم السماح لرئيس الوزراء بالترشح لهذا المنصب لاحقاً.
*استمرار خروج المظاهرات في داخل الكيان بعشرات الآلاف من المستوطنين المطالبين بالحفاظ على حياة الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، والعمل على إطلاق سراحهم بأيّ ثمن كان، فضلاً عن التنديد بسياسة الحكومة التي تدمر الكيان الإسرائيلي ذاتياً، وتكاد تقترب من لحظة إعادة توجيه فوهة المسدس من الأقدام إلى الرأس.
*عشرات الآلاف الجديدة من الحريديم وأنصارهم الذين اكتظت بهم ساحات تل أبيب وغيرها بعد صدور قرار المحكمة الإسرائيلية بفرض الجنيد على الحريديم، ووقف تمويل المدارس الدينية بما يتناقض والواقع المعاش في الداخل الإسرائيلي منذ إنشاء الكيان، وهذا كفيل بإمكانية اشتعال «حرب أهلية» وفق ما حذرت منه الصحف الأميركية، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن التجمع الاستيطاني الإسرائيلي ببنيته التكوينية قائم على العديد من التناقضات وعدم الانسجام، لكن الواقع الحالي يزيد اتساع الشرخ والهوة عمودياً وأفقياً.
*فقدان الثقة من المستوطنين بالجيش بعد فشله في حماية نفسه، وازدياد حدة التناقضات المركبة بين الجيش والسلطة التنفيذية، وتهرب الجانبين من تحمل المسؤولية عما حدث وتزداد تداعياته مع الزمن، ناهيك عن الوضع الضاغط الذي تعيشه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جراء العديد من الثغرات غير القابلة للمعالجة حتى الآن، وهذا ما يتجلى في العديد من المؤشرات، ومنها:
ـ تفاقم أزمة القوة البشرية، وازدياد صعوبة إبقاء الضباط في الخدمة، وقد نقلت القناة « 12» الإسرائيلية ما يؤكد إقدام «900 ضابط برتبة نقيب ورائد، على تقديم طلبات للتسريح من «الجيش هذا العام»، مقارنةً بـ 100 إلى 120 ضابط كانوا يطلبون ذلك في السنوات الماضية، وهذا يعني أن الأزمة «أزمة الدولة وليس أزمة الجيش وحده».
ـ تحذير المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، من مخاطر عدم تمديد سنّ الإعفاء من الخدمة العسكرية في «جيش» الاحتلال، فالواقع الحالي يقول: إن /5000/ جندي احتياطي يخدمون في الوحدات، ومن حقهم التسريح الفوري وفق أحكام القانون النافذ، لكن لا إمكانية للتسريح في ظل النقص الحاد بالعناصر، ومن مختلف الاختصاصات، بالتزامن مع إعلان الكثيرين من جنود الاحتياط أنّهم لن يعودوا للخدمة العسكرية في غزّة حتى لو تعرضوا للعقاب.
ـ خطورة هذا الوضع تزداد وضوحاً في ضوء ما كشفته وسائل الإعلام الإسرائيلية التي أكدت العمل على إنشاء فرقة احتياط جديدة بسبب الحاجة الملحة إلى آلاف المقاتلين الإضافيين، وسبق لرئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي أن أبلغ الحكومة عن حاجة «الجيش» إلى 15 كتيبة جديدة، بحسب إذاعة «جيش» الاحتلال الإسرائيلي، بسبب النقص الحاد في القوات الذي يعانيه «الجيش» الإسرائيلي.
*إذا أضفنا إلى ذلك دلالات تغيير لهجة المسؤولين الصهاينة، وغياب لغة التهديد التي حكمت تصريحات نتنياهو ووزير حربه على وجه الخصوص، وبدء سماع نغمة جديدة عن إمكانية التوصل إلى حلول سياسية بدلاً من التهديد بإعادة لبنان والمنطقة إلى العصر الحجري، وترافق ذلك مع تركيز الصحف الأميركية والأوروبية على عودة المبعوثين الأميركيين والفرنسيين وغيرهم، مع انطلاق حمى الانتخابات الأميركية بعد المناظرة الأولى بين بايدن وترامب، وكثير غير ذلك من المؤشرات المرتبطة بالوضع المتأزّم والمتفاقم في المنطقة، واليقين بقدرة اليمن المقاوم مع بقية أقطاب محور المقاومة على إغلاق بحار المنطقة بالكامل في حال تدحرجت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وهنا يتضح لكل من يريد أن يفهم الواقع القائم ومعالم المستقبل القريب أن الكثير من الأنياب السامة الصهيو ـ أميركية قد تكسّرت، وغالبية المخالب المحشوة بلحم الضحايا والأبرياء لم تعد قابلة للرهان عليها، بل إن عوامل القوة والاقتدار لدى أقطاب محور المقاومة أكثر من مؤلمة لجبهة الأعداء الذين ليس أمامهم إلا الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة والمفروضة بفضل التضحيات والإرادة وصوابية الرؤية الاستراتيجية الاستشرافية لقادة محور المقاومة الذي لم يعد بإمكان أنصار العربدة والبطش والقتل والإبادة تجاهل ما يستطيع فعله وفرضه على ميادين المواجهة المفتوحة على شتى الاحتمالات والسيناريوات الممكنة.
تساؤل مشروع: أمام هذا الواقع من الذي يجب أن يقلق ويخاف ويخشى تمدّد ألسنة اللهب، واتساع الحرب، وخطر نشوب حرب كبرى قد تتجاوز الإقليم؟ ومن القادر على التعامل مع أسوأ السيناريوات المحتملة: محور المقاومة، أم المحور الصهيو أميركي؟
سؤال أترك الإجابة عنه برسم كلّ من يقرأ المقال بروية وتمعن ويطلع على المضمون بموضوعية وعقلانية.