كتابنا

إبراهيم علوش  يكتب :”طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى” وقحط الوضع العربي

إبراهيم علوش  يكتب :”طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى” وقحط الوضع العربي
شكلت عملية “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى” فجيعةً مؤلمةً للعدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وداعميه لما يستيقظوا من وجعها بعد، كما شكلت مفاجأة مدهشة لكل مواطن عربي شريف، فقدحت شعلة الأمل في إمكانية تـ.ـحـ.ـرير فلسطين، ببساطة، لأنها أظهرت:
أ – أن قهر العدو وإغراق منظوماته العسكرية والأمنية بالطوفان أسهل بكثير مما توهم كثيرون على مدى عقود.
ب – أن غزة الصغيرة المحاصرة، والمخنوقة خنقاً منذ عام 2007، اجترحت بإمكانات ضئيلة معجزة عسكرية إبداعياً، فما بالك لو تحررت طاقات 10% فحسب من الأمة العربية التي يبلغ تعدادها نحو 500 مليون نسمة؟!
ج – أن الإرادة المـ.ـقـ.ـاومة أثبتت أن بالإمكان، لا تسديد فاتورة الجرائم الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية في السنوات الأخيرة دفعةً واحدةً فحسب، بل أيضاً تقويض منظومة الأمن الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية في مستعمرات غلاف غزة في رمشة عين، وبالتالي بالإمكان تـ.ـحـ.ـرير فلسطين كاملة.
قبل عملية “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى”، ربما قال البعض إن ما سلف كلامٌ إنشائيٌ محض. أما بعدها، فلا بد من أن تنعقد حتماً ألسنة المطبعين والتسوويين الذين بنوا جل خطابهم السياسي على فرضية استحالة هزيمة الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني عسكرياً على أرض فلسطين التاريخية، ولا سيما الأرض المـ.ـحـ.ـتـ.ـلة عام 1948.
وكان بعض دعاة التعايش والتسوية مع العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني يزعمون بأن دافعيته للقـ.ـتـ.ـال في لبنان مثلاً أضعف بكثير من دافعيته للقـ.ـتـ.ـال في فلسطين.
وبناءً عليه، قالوا إن ما جرى في لبنان عام 2000 لا يصح إسقاطه على فلسطين المـ.ـحـ.ـتـ.ـلة، كما صرح وقتها عبر الفضائيات مثلاً عضو “عربي” في كنيست الاحـ.ـتـ.ـلال سابقاً كان قد احتضنه محور المـ.ـقـ.ـاومة قبل أن يقلب له ظهر المجن عشية الربيع العبري ويتحول إلى “شيخ علماني”.
وعلى الرغم من تهافت مثل ذلك الخطاب منطقياً، لأن الهزيمة الساحقة للقوى العسكرية الأساسية للمـ.ـحـ.ـتـ.ـل في أي ميدان تعني تـ.ـحـ.ـرير فلسطين، كما عنت موقعة حطين تـ.ـحـ.ـرير القدس، فإن ما كرس فكرة استحالة هزيمة الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني على “أرضه”، أي أرضنا العربية المـ.ـحـ.ـتـ.ـلة، هو الحصانة الوهمية التي منحها التبني الدولي، ومن ثم الرسمي العربي المطبع، ومن ثم الرسمي الفلسطيني، لمشروعية ذلك الكيان و”حقه في الوجود”، وليس أي قوة ذاتية خارقة من أي نوع.
لا أزعم طبعاً أن عملية طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى هزمت القوى العسكرية الأساسية للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، بل أنها أظهرت أن هزيمتها أسهل مما روج كثيرون، لكنّ إظهار إمكانية هزيمة الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني ومحوه من الوجود لا يكفي بذاته كي تتحقق تلك الإمكانية، إذ لا بد من اقترانها ببناء قوى مؤمنة بضرورة محوه من الوجود من جهة، وبوجود حواضن أو عمق استراتيجي لتلك القوى، من جهةٍ أخرى، تمدها بالزخم وعناصر القوة، فأين نقف الآن من تلك المعادلة في حين أن غزة محاصرة؟
يتصاعد حالياً عدوانٌ صـ.ـهـ.ـيـ.ـونيٌ إجراميٌ على قطاع غزة، بعد أن حقق شبابه نصراً مبهراً يعز نظيره، من دون أن نرى لغزة حتى الآن من تقدم لنصرتها في الميدان، ما عدا تعاطف الشارع العربي والفلسطيني الذي لم يقصر يوماً في تأييد كل نقطة صدام مع الاحـ.ـتـ.ـلالات، لكن كيف يمكن أن يتحول مثل ذلك التأييد إلى عمل نضالي ملموس يصب في مشروع التـ.ـحـ.ـرير ويخفف الحصار عن المـ.ـقـ.ـاومة على الأقل؟
يطرح هذا تلقائياً مشكلة الوضع العربي، في المحيط الجغرافي المباشر لغزة وكل فلسطين، المقيد بحدود التجزئة القُطرية وبالحسابات المبتسرة للأنظمة والقوى والتيارات والشخصيات المتسربلة فيها.
إنها مشكلة المنظومة الرسمية العربية، وعلى رأسها منظومة السلطة الفلسطينية طبعاً المرتهنة لقيود اتفاقية أوسلو وأخواتها؛ منظومة التنسيق الأمني ضد المـ.ـقـ.ـاومة، وهي الرخصة المزعومة للتطبيع الرسمي العربي بذريعة “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون”، في حين أن من يرنو إلى الجانب المظلم المخزي يطبّع، ومن يشده إشراق الجوانب المضيئة من فلسطين والفلسطينيين يعتنق جمرة المـ.ـقـ.ـاومة. وإن عينَ المرء مرآةُ قلبه، تشدّ الساقطين للسقوط، والمـ.ـقـ.ـاومين للمـ.ـقـ.ـاومة، والانتهازيين للتذبذب بينهما.
إن مأساتنا فينا، في تركيبة المنظومة التي تحكمنا كشعبٍ عربي، وليس المقصود نظاماً بعينه هنا أو مجموعة أنظمة، بل تفكيك الإرادة والمسؤولية والموارد العربية في منظومة تجزئة، الأمر الذي يجعلها مرتعاً للهزيمة والاستسلام، وحتى الخيانة.
وما دامت الحال هكذا، فإن مأساة غزة لن تكون إلا امتداداً لمأساة العراق وليبيا وسورية ولبنان واليمن ولكل مآسينا، وإن فلسطين ستبقى عنواناً لمأساة الأمة العربية بأسرها.
لعل أحدث مثال على ذلك هو الموقف المعيب لجامعة الدول العربية، بعد انعقادها على مستوى وزراء الخارجية، في 11/10/2023، في خضم المذبحة التي تتعرض لها غزة بشراً وحجراً، فإذ بها تدين “قـ.ـتـ.ـل المدنيين من الطرفين” وتطالب بـ”إطلاق سراح المدنيين…”، في إشارة إلى الجنود والمستوطنين المحتجزين في غزة، وهو ما تحفظت عليه 4 دول عربية طبعاً، لكن السقف الرسمي العربي كان قد رسم عند مستوى منخفضٍ بصورةٍ لا تصدق ولا تجمله التحفظات، وكان الحد الأدنى المطلوب كموقف رسمي عربي، كي لا يكون غطاء سياسياً للمجازر في غزة، هو وقف التطبيع مع العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، ولن نطالبهم بأكثر من هذا.
نقطة البداية الضرورية لكل مقاربة للشأن الفلسطيني
لا يستقيم الحديث في أي شأن يتصل بالقضية الفلسطينية من دون العودة إلى المربع الأول: ما هي القضية الفلسطينية؟
إنها، بأبسط تعبير ممكن، قضية أرض احتلت احـ.ـتـ.ـلالاً استعمارياً إحلالياً سعى إلى محو هويتها وتهويدها، فعانى شعبها ويلات الاحـ.ـتـ.ـلال والقـ.ـتـ.ـل والتهجير واللجوء والتآمر السياسي منذ القرن الـ 19 حتى يومنا هذا.
إن هذه الحقيقة البسيطة والبديهية كثيراً ما يجري تجاهلها عند تناول الشأن الفلسطيني، فإذا كانت قضية فلسطين هي قضية استعمار استيطاني إحلالي، فإن حلها البسيط والبديهي يكون التـ.ـحـ.ـرير، الأمر الذي يعني شيئاً واحداً فقط: تفكيك المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في فلسطين جيشاً ومجتمعاً وكياناً سياسياً من أجل استعادة عروبة الأرض.
إن تجاوز تلك الحقيقة المركزية: الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، أي مشروع التهويد، وبالتالي ضرورة التـ.ـحـ.ـرير الكامل لاستعادة عروبتها أرضاً وشعباً وهوية، هو منشأ كل انحراف سياسي فيما يتصل بالقضية الفلسطينية، من “حل الدويلة” إلى “حل الدولة الواحدة” إلى طائفة “الحلول الإنسانوية للنزاع” التي يقود جميعها إلى التخلي عن نهج المـ.ـقـ.ـاومة والتـ.ـحـ.ـرير.
رب قائل: وما صلة ذلك بما يجري في غزة الآن، ولا سيما “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى”؟ والجواب هو أن من يعد فلسطين كلها مـ.ـحـ.ـتـ.ـلة، وكلها عربية، ويرى مـ.ـحـ.ـتـ.ـليها مستعمرين لا “مدنيين”، لن يجد غضاضةً في عملية “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى”، لا بل سيجدها عملاً رائعاً وخطوة نحو التـ.ـحـ.ـرير، فهي عودة مشرفة إلى الأرض التي يحتلها الغرباء (مقارنةً بأخذ “فيزا” من الاحـ.ـتـ.ـلال مثلاً). أما من استبطن “حق” الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني بالوجود، وراح يتعامل مع المستعمرين المستوطنين كـ”مدنيين”، ومع الاحـ.ـتـ.ـلال كـ”دولة طبيعية”، فمن الطبيعي أن يتعامل مع عملية “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى” كعدوان.
من الأهمية بمكان هنا الانطلاق من أن استراتيجية العمل المـ.ـقـ.ـاوم ليست رداً على جرائم الاحـ.ـتـ.ـلال وممارساته وعنصريته فحسب، بل على الاحـ.ـتـ.ـلال ذاته، أي أنها ليست رد فعل يمكن التلاعب فيه. أما الجرائم اليومية والإجراءات التعسفية والممارسات العنصرية، فليست سوى منتجات ثانوية وعرضية للاحـ.ـتـ.ـلال تفيد سياسياً فقط في تذكيرنا بحقيقة وجوده، فهل نكف عن المـ.ـقـ.ـاومة ونتخلى عن مشروع التـ.ـحـ.ـرير لو خفف الاحـ.ـتـ.ـلال من جرائمه اليومية مثلاً؟!
وإذا لم نعد إلى ذلك المربع الأول، فإن كل عمل مـ.ـقـ.ـاوم يصبح عرضة للإدانة، أو حتى للتوظيف في مشروع تسووي، كما فعلت “وثيقة الأسرى” مثلاً عام 2006 عندما حاولت حصر المـ.ـقـ.ـاومة في الأرض المـ.ـحـ.ـتـ.ـلة عام 1967.
إشكالية المقاربة الليبرالية للقضية الفلسطينية
يمكن بناء قضية اجتثاث الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وتفكيكه على أسس قومية أو إسلامية أو يسارية. أما الاختراق الأيديولوجي الذي يؤسس للتطبيع عقائدياً، فهو الفكر الليبرالي الذي ينطلق من أولوية الإنسان-الفرد، المنبت عن الروابط القومية والحضارية، إلا إذا كان ينتمي إلى “أقلية”، فإن إبراز الهوية “الأقلوية” يصبح هو المشروع الليبرالي، حتى لو كانت تلك “الأقلية” هي المثلية أو “المتحولين جنسياً”، وإن أهم أقلية في العالم عندهم هي اليـ.ـهـ.ـود طبعاً.
مجدداً، رب قائل: وما علاقة ذلك بما يجري الآن في غزة، أو بـ”طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى”؟ والجواب هو أن الانطلاق من أولوية الفرد وحقه في الحياة والحرية والتملك، لا من أولوية الجماعة القومية أو الحضارية (أو الطبقة في المفهوم اليساري) وحقوقها، يتركنا عزلاً في مواجهة من يتناولون المستعمر المستوطن كإنسان-فرد يجري “التعدي” على حريته وحقه في الحياة من طرف المـ.ـقـ.ـاومين، الأمر الذي يفسر كثيراً من تعاطف الغرب والمتغربين مع المستعمر المستوطن وكيانه الذي يعدونه، من منظور ليبرالي، “أرقى حضارياً” من أي نموذج موجود في الوطن العربي والعالم الإسلامي (حتى بعد الصراع في الكيان حول مسألة التعديلات القضائية).
وتلاحظ كلما جادلت غربيين أو متغربين بشأن القضية الفلسطينية أنهم يطرحون عليك “حججاً” يظنونها “قاصمة” مثل: ماذا عن أجيال الأفراد اليـ.ـهـ.ـود الذين ولدوا في فلسطين؟ ماذا ستفعلون بهم؟ وماذا عن مشكلة “غياب الحرية والديموقراطية” في المجتمع العربي؟ أليست أولى باهتمامكم؟ وما أهمية الأرض في زمن “القرية الكونية” حتى يتذابح الناس عليها؟ أليس من الأجدى الضغط على الدول العربية التي يعيش فيها الأفراد اللاجئون كي توطنهم فيها؟ إن مشكلتكم مع الدول العربية إذاً…
يمكن الرد بأننا لم نقصر في استقبال اليـ.ـهـ.ـود في فلسطين أو غيرها عندما اتونا لاجئين وفرادى، وأن الغزو شيء مختلف تماماً، ويمكن وضع كثير من الردود على الأسئلة أعلاه، لكن المسألة الجوهرية فيها أنها أسئلة تنطلق من أولوية الفرد، اليـ.ـهـ.ـودي الفرد، واللاجئ الفرد، والمواطن الفرد، إلخ… وأنها تتجاهل عمداً حقوق الجماعات، الأغلبيات تحديداً، الأمة العربية، جماعة المسلمين، أو الطبقة العاملة إن شئت، وهي مفاهيم يعدها الليبراليون سرديات تعسفية وشمولية، لكن جوهر الإشكال مع العقل الليبرالي هي مسألة أولوية حقوق الفرد على حقوق الجماعة أم العكس؟
من منظور قومي على الأقل، ما لم يتخلله اختراق ليبرالي، يعد كل يـ.ـهـ.ـودي على أرض فلسطين جزءاً من المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني موضوعياً، بغض النظر عن توجهه السياسي أو خطابه، لكنّ رؤية المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني مشروعاً شمولياً يظل عصياً على الليبراليين.
باختصار، لا يتوقف من ينطلق من أولوية حقوق الجماعة، الشعب الفلسطيني أو الأمة العربية مثلاً، لحظةً عند “مشكلة” حق فرد ولد في فلسطين، بل يتوقف كثيراً عند الحق الجمعي لنصف الشعب الفلسطيني الذي ولد خارجها، فالمسألة وطنياً هنا هي مشروع صـ.ـهـ.ـيـ.ـوني مقابل مشروع مـ.ـقـ.ـاومة وتـ.ـحـ.ـرير.
والأهم، عند القوميين على الأقل، أن تـ.ـحـ.ـرير فلسطين وكل أرض عربية ينبثق من حق الأمة العربية التاريخي فيها، الأجيال السابقة والحالية واللاحقة، بما يتجاوز حق أي فرد، لكن مثل هذا الخطاب يعد “شمولياً” عند أصحاب المنطق الفردي، فبئس زمنٍ صرنا نضطر فيه إلى الدفاع عن عمليات المـ.ـقـ.ـاومين، ضد المستعمرين المستوطنين، عند بعض أبناء جلدتنا!
لماذا احتلت فلسطين؟
كثيراً ما يغيب سؤال “لماذا احتلت فلسطين؟” أيضاً عن الحوارات المتصلة بالشأن الفلسطيني، على الرغم من أنه من أسئلة المربع الأول الذي يدخلنا تغييبه فوراً في مسارات تسووية وتفريطية عربياً وفلسطينياً.
تبلورت استراتيجية تأسيس الكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في النصف الأول من القرن الـ19 على خلفية تمدد إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، من مصر والسودان باتجاه الجزيرة العربية وبلاد الشام. وكان رائد تلك الاستراتيجية هو السياسي البريطاني هنري جون تمبل، المعروف باسم بالمرستون، الذي مضى في تنفيذها بغرض محدد هو منع وحدة الجناح الآسيوي والجناح الإفريقي للأمة العربية.
لا نتناول هنا أول من جاء بالفكرة بالمناسبة، بل أول من وضع استراتيجية لتنفيذها. وإن العبرة هنا أن احـ.ـتـ.ـلال فلسطين جاء موجهاً ضد الأمة العربية، لا ضد الفلسطينيين وحدهم، وبالتالي فإن تـ.ـحـ.ـرير فلسطين هو مسؤولية الأمة العربية كلها.
لا يمنع ذلك طبعاً من أن يكون لفلسطين بعد إسلامي أو أممي، أو أن يكون لمحور المـ.ـقـ.ـاومة أو للتضامن الأممي دوران كبيران، وكل ذلك يصب في الاتجاه نفسه، ويعزز بعضه بعضاً، لكن المسؤولية الرئيسية في التعامل مع الاحـ.ـتـ.ـلال الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني يفترض أن تقع على عاتق الأمة العربية، لأن المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني يستهدفها بالأساس، وتجاوز تلك النقطة يعفي الدول العربية وحكامها من المسؤولية تجاه فلسطين، ولا يجوز أن نقبل بذلك أو أن نمرره مرور الكرام.
لكن الذين أرادوا التنصل من القضية الفلسطينية (في قمة الرباط عام 1974) اخترعوا مقولة “الممثل الشرعي الوحيد” كي ينسلوا إلى معاهدات الصلح والاستسلام، ومن ثم بدأ ذلك “الممثل الشرعي الوحيد” يصيح: “يا وحدنا”، وبالتالي لا خيار إلا المضي باتجاه اتفاقية أوسلو التي أصبحت بدورها ذريعةً للمزيد من معاهدات الصلح والاستسلام وللتطبيع واسع النطاق مع العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، وصولاً إلى الاتفاقيات “الإبراهيمية”.
لم تكن صدفةً أن تسبق اتفاقيةُ سايكس-بيكو عام 1916 وعدَ بلفور عام 1917، لأن تقسيم الوطن العربي باتفاقية سايكس-بيكو وبغيرها يعني تفكيك الإرادة والموارد والقوى العربية، وما كان من الممكن منح فلسطين لليـ.ـهـ.ـود لو كانت الأمة العربية موحدة أو شبه موحدة.
نعيش الآن في منظومة تجزئة إذاً، فمن يحمل مشروع التـ.ـحـ.ـرير يحمله وحده، ويدفع ثمنه وحده، وتستفيد منه الأمة العربية بأسرها، وهذا يعيد إنتاج مفهوم “السلع العامة” Public Goods في علم الاقتصاد، مثل الأمن والدفاع والقضاء، أو مكافحة الوباء أو التلوث، إذ لا توجد طريقة لجعل المستفيدين يشاركون في تحمل العبء العام إلا من خلال هيئة مركزية، دولة أو حركة تحرر مثلاً، تعبئ قوى المجتمع لتحقيق الهدف العام. وما لم يتحقق ذلك، يتراجع كثيرون عن تحمل ذلك العبء وحدهم.
مرة أخرى، ما علاقة كل ذلك بغزة و”طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصى” اليوم؟ والجواب هو أن الدور الوظيفي للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في الوطن العربي هو الذي يفسر اندفاع حاملات الطائرات الأمريكية، والغرب برمته، إلى الدفاع عن العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني عندما شعروا بأنه تعرض لضربة مؤلمة، وهو ذاته الدور الوظيفي الذي رسمه بالمرستون في النصف الأول من القرن الـ19، والعبرة أن الميدان الفلسطيني هو بؤرة الصراع مع الهيمنة الغربية، أو مع الإمبريالية إن شئتم. لذلك، تمثل فلسطين وتراً حساساً لدى المواطنين العرب حتى بعد أن تخلت عنها الأنظمة.
وما دامت الأنظمة لا تريد تحمل مسؤوليتها إزاء التحدي القومي الوجودي في فلسطين، فإن الشعب العربي هو الأولى بتحملها من خلال انتفاضة، غير ربيعية بالتعريف، هدفها مناهضة التطبيع ودعم حركات المـ.ـقـ.ـاومة ضد الاحـ.ـتـ.ـلال والهيمنة الإمبريالية؛ انتفاضة شعبية عربية لا تطرح إسقاط الأنظمة ولا إعادة إنتاج الثورات الملونة، بل تعيد توجيه البوصلة: الشعب يريد تـ.ـحـ.ـرير فلسطين.
أخيراً، ثمة تساؤلٌ مطروحٌ بقوة في بعض الدوائر: ماذا عن إمكانية تجيير المـ.ـقـ.ـاومة لمصلحة المشروع الإخواني في الإقليم؟ ثم، في دوائر أخرى: ماذا عن إمكانية تجييرها للمشروع الإيراني في الإقليم؟
يمكن الرد أن من لا يريد لطرفٍ ما أن يجير المـ.ـقـ.ـاومة فليتفضل إلى ميدانها الواسع كي يمارسها بنفسه، ولكن الوقت ليس وقت مماحكات. وفي زمن القـ.ـتـ.ـال، فإن كل مـ.ـقـ.ـاوم من أي فصيل، أو من خارج أي فصيل، هو جزءٌ من جيشٍ واحد، وعندما يتوقف القـ.ـتـ.ـال يصبح المجال واسعاً للتداول في الخلافات السياسية.
لكنْ نلاحظ أن الإعلام الغربي والصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني والعربي المناهض للمـ.ـقـ.ـاومة يركز كل خطابه الإعلامي حالياً على حـ.ـمـ.ـاس، في حين أن الهدف هو كل فصائل المـ.ـقـ.ـاومة في غزة، وغزة ذاتها. وكما جرى التركيز إعلامياً على صدام حسين لتدمير العراق، وعلى معمر القذافي لتدمير ليبيا، يجري التركيز الآن على حـ.ـمـ.ـاس لتدمير غزة.
إن التركيز على حـ.ـمـ.ـاس في الإعلام المعادي يهدف إلى عزلها عن فصائل المـ.ـقـ.ـاومة الأخرى وعن الغزيين وعن الشارع العربي، في محاولة لإظهار أنها وحدها المستهدفة، كما أنه لعبٌ على وتر “التجيير السياسي” الذي يجفل منه الناس.
وبصفتي مواطناً عربياً عادياً مناهضاً للمشروع الإخواني في الإقليم، ومؤيداً لكل أشكال المـ.ـقـ.ـاومة حتى النخاع، فإنني أود أن أقدم اقتراحاً صغيراً لمن يهمه الأمر: لا يجوز أن ينزلق خطاب المـ.ـقـ.ـاومة ووسائل الإعلام المـ.ـقـ.ـاومة إلى مصطلحات الإعلام المعادي. ولا بد من تسليط الضوء على المـ.ـقـ.ـاومة والمـ.ـقـ.ـاومين، وأن يجري التحدث باسم المـ.ـقـ.ـاومة الفلسطينية ككل، أو باسم أذرعها العسكرية (الـ.ـقـ.ـسام، سـ.ـرايـ.ـا الـ.ـقـ.ـدس، كتائب أبـ.ـو عـ.ـلـ.ـي مـ.ـصـ.ـطـ.ـفى، إلخ…)، أما تقديم العمل المـ.ـقـ.ـاوم باسم القيادات السياسية للفصائل، فهو يعيدنا إلى صراعات “الربيع العربي”، والقرار لكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى