الدفن في البيت و”التشليخ”.. طقوس نادرة في جنوب السودان
في مكان لا يبعد سوى 10 أمتار من غرفة نومه، يدفن لومور غونجا وأقرباؤه جدهم المتوفي كجزء من عادة الاحتفاظ بالموتى داخل فناء منزل الأسرة؛ وهي عادة قديمة من العادات التي تتوارثها عدد من قبائل جنوب السودان منذ آلاف السنين، إلى جانب عادات فريدة أخرى تميز أكثر من 64 قبيلة في هذه البلاد.
ومن إكرام الميت بدفنه داخل فناء منزل العائلة إلى “التشليخ” و”تتويج الصبيان” عند انتقالهم من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب، وغيرها من الطقوس؛ تحتفظ قبائل جنوب السودان بالعديد من العادات الفريدة التي تعكس إرثا ثقافيا عصيا على التحولات المتسارعة في الدولة، التي انفصلت عن السودان في العام 2011.
وفي حين تتفاوت تلك العادات من قبيلة إلى أخرى، توجد بعض العادات والتقاليد التي تتشارك فيها كل أو معظم تلك القبائل. وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من سكان جنوب السودان ارتبطت وجدانيا وثقافيا بشمال السودان قبل انفصال بلادهم، واحتكاك أعداد كبيرة من الشباب بالشعوب الأوروبية والأميركية واعتناق معظمهم الإسلام والمسيحية، إلا أن الاحتفاظ بالعادات القديمة يعتبر أمرا مقدسا للكثير منهم، بما في ذلك شريحة كبيرة من الشباب، الذين لم يروا بلدهم الأصلي إلا بعد الانفصال.
دفن الموتى في فناء المنزل
وفي هذا الصدد قال الباحث في تراث جنوب السودان، جبرائيل شدر، إن عادة دفن الموتى في فناء منزل العائلة من العادات القديمة عند عدد من القبائل خصوصا قبيلة الباري؛ التي تسكن في قرى متاخمة للعاصمة جوبا، حيث يحرص أقرباء الميت على الاحتفاظ بجسده في مكان منظور إليهم اعتقادا منهم بأن ذلك يشكل نوعا من الوفاء له ويمنعهم من ذكره بالسوء أو التصرف بأي فعل كان يرفضه عند حياته.
ويقول شدر، إن هذه العادة وغيرها من العادات المميزة الأخرى التي تتوارثها قبائل جنوب السودان جيلا بعد جيل تعبر عن اعتزاز شعب جنوب السودان بثقافته الضاربة في القدم رغم عمليات النزوح والهجرة الخارجية إلى أوروبا وأميركا، التي طالت نسبة كبيرة من السكان وخصوصا الشباب خلال حرب الجنوب في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
وإضافة إلى دفن الموتى في فناء المنزل، فإن عادة تتويج الصبيان أيضا تعتبر من العادات التي حافظت على زخمها لعقود طويلة. ويوضح شدر: “عندما يبلغ صبي ما في القبيلة الحلم تنظم قبيلته له موكبا صاخبا يشارك فيه شباب ورجال القبيلة ويقيمون الولائم إعلانا لدخوله مرحلة الرجولة التي تتطلب تغييرا كبيرا في سلوكه اليومي”.
كما تنتشر في جنوب السودان عادة التشليخ؛ وهي وضع وشم دائم على الوجه باستخدام أمواس حادة، وهي من العادات المشتركة بين معظم قبائل جنوب السودان، لكن الطريقة تختلف من قبيلة إلى أخرى.
وتعتبر عملية تشليخ الصبيان أو الفتيات عند الكثير من قبائل جنوب السودان علامة مهمة لتمييز أفراد القبيلة وتشير إلى انتقال الفتاة أو الصبي إلى مرحلة النضج.
ولكل قبيلة طريقة محددة في التشليخ تميزها عن القبيلة الأخرى، وتتراوح ما بين وضع علامات عريضة أو طولية أو نقاط في أماكن متفرقة من الوجه.
وعلى الرغم من خطورة هذه العملية، واستحداث حكومة جنوب السودان مؤخرا قوانين تمنعها تماما، إلا أن العديد من القبائل لا تزال تمارسها سرا، إذ تعتبرها ضرورية لزينة وجمال المرأة ولتمييز أفراد القبيلة.
ولا تزال قبيلة الدينكا ذات الثقل العددي والنفوذ الكبير في جنوب السودان، تحتفظ بعادة احترام المرأة ومنحها مكانة كبيرة في المجتمع.
ويتجسد ذلك من خلال فرض مهر كبير عند تزويجها يصل أحيانا إلى أكثر من مئتي بقرة ويتفاوت الأمر حسب المكانة الاجتماعية للعريس أو العروس.
كما تحتفظ أيضا بعودة تزويج المرأة لشقيق زوجها أو أحد اقربائه عند وفاته اعتقادا منهم بأن ذلك يحافظ على إرث الزوج المتوفي وعلى سلالة العائلة والقبيلة.
وتحرص الكثير من قبائل جنوب السودان عند وفاة أحد أفراد الأسرة على حلاقة رؤوسهم وذبح الخرفان والحداد لقرابة العام، تقام خلاله العديد من الطقوس والعادات الاجتماعية التي تؤكد مكانة المتوفي عند أسرته.
ورغم تراجع الاحتفاظ ببعض تلك الطقوس في المدن الكبيرة، إلا أن العديد من أفراد القبائل يحرصون على ممارستها حالما عادوا إلى قراهم ومناطقهم الأصلية.
ويشير شدر في هذا السياق إلى أن إنسان جنوب السودان عادة ما يحمل معه ثقافته القبلية حتى إذا أجبرته الظروف على السفر والهجرة بعيدا إلى مختلف أنحاء المعمورة.