الترحاب والسلف: عادة الكرم المتوارثة في قبائل الصعيد
أسماء صبحي – تعرف قبائل الصعيد في مصر بتمسكها الشديد بالعادات والتقاليد التي توارثتها عبر الأجيال. والتي لا تزال تمثل جزءًا أصيلًا من نسيج المجتمع الصعيدي حتى يومنا هذا. ومن بين أبرز تلك العادات التي تعكس عمق الثقافة وسمو القيم عادة “الترحاب والسلف”. والتي تعنى بتقديم الضيافة الكاملة للضيف حتى دون معرفة مسبقة به، وكذلك إقراضه أو مساعدته ماليًا أو اجتماعيًا من دون انتظار مقابل فوري. وهذه العادة لا ترتبط فقط بالكرم بل تعكس مفاهيم الشرف والواجب والارتباط العضوي بين أبناء القبيلة.
الجذور التاريخية للكرم القبلي
يرى الباحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية الدكتور محمد عبد الستار حسن، أن الكرم في المجتمعات القبلية بالصعيد ليس مجرد سلوك فردي بل هو أداة لتعزيز التماسك الاجتماعي وإعادة إنتاج المكانة القبلية. ويشير إلى أن هذه العادة بدأت منذ قرون حين كانت القبائل تعتمد على بعضها البعض في مواجهة الظروف القاسية من مجاعات وأزمات اقتصادية ونزاعات قبلية.
ويقول الدكتور عبد الستار: “الكرم القبلي في الصعيد ليس مجرد واجب اجتماعي بل هو مرآة للهوية. ويتم تقييم الرجال حسب قدرتهم على الترحاب والسلف، خاصة في المناسبات العامة كالزواج أو الصلح أو العزاء.
الترحاب والسلف
في العرف القبلي الصعيدي، عندما يقول أحدهم “أنا طالب سلف”. لا يقصد بالضرورة المال فقط بل قد يكون بحاجة إلى مساعدة في موقف اجتماعي، أو دعم في خصومة، أو حتى تدخل في مصاهرة. ويتم الاستجابة للطلب دون توجيه أي أسئلة أو مطالبات على اعتبار أن هذا السلوك يثبت الرجولة والنخوة والشهامة. وهي قيم مقدسة في بنية القبيلة.
وفي حالة المال، يمنح السلف دون كتابة أو شهود ويرد حين يتيسر. بل أحيانًا لا يطالب به إطلاقًا إذا طرأت ظروف صعبة على المستَلف.
الضيافة دون سؤال
في الكثير من قرى وقبائل الصعيد، إذا دخل ضيف إلى المنزل في أي وقت. لا يسأل عن اسمه أو غرضه قبل أن يقدم له الطعام والشاي. بل إن بعض العائلات ما زالت تلتزم بعرف “ثلاثة أيام ضيافة دون سؤال”، وهو موروث عربي قديم. وخلال هذه المدة، لا يسأل الضيف عن السبب الحقيقي لزيارته احترامًا له وحفاظًا على كرامته.
وتقول الباحثة د. شيماء الهواري، المتخصصة في الثقافة الشعبية، إن الضيافة في الصعيد تمتد لتشمل حتى الغرباء. فوجود ضيف أمام البيت يكفي لدعوته دون معرفة مسبقة، وهذه العادة تدرس في البيوت كما تدرس القراءة والكتابة.
الترحيب في المناسبات العامة
الترحاب له مكانة خاصة عند الصعايدة، ويتجلى بشكل ملحوظ في المناسبات مثل الأفراح أو المآتم. حيث تنصب السرادقات وتذبح الذبائح للضيوف من داخل القرية وخارجها. ويخصص شخص في العائلة أو القبيلة يلقب بـ”المعزب” وهو المسؤول عن راحة الضيوف وكرم استقبالهم.
وتقاس مكانة العائلة أو الرجل في القبيلة بمقدار ما يقدمه من ترحاب. ومن لا يلتزم بذلك يوصم بـ”قلة الأصل” وهو اتهام اجتماعي خطير قد يقلل من احترامه وسط جماعته.



