الطريق إلى القدس.. يوم ارتفعت رايات الإسلام فوق الأسوار

في صيف العام 583 هجري، اشتعلت سهول حطين بحرارة الشمس ولهيب المواجهة، حيث دوّت أصوات السيوف وارتطمت الرماح في معركة صنعت تحولاً حاسماً في مسار التاريخ، اصطف الصليبيون بدروعهم اللامعة وصفوفهم الكثيفة أمام جيش صلاح الدين الأيوبي، الذي لم يكن قائداً عادياً يقود حملة عسكرية، بل كان روحاً توحد الصفوف وقلوباً اشتعلت شوقاً لتحرير الأرض المباركة في ذلك اليوم، انهارت آمال الصليبيين كما ينكسر الزجاج، وسقط الآلاف منهم بين قتيل وأسير، وكان على رأسهم ملك بيت المقدس نفسه، الذي أُسر برفقة مئة وخمسين من نخبة فرسانه وقادته.
تحت خيمة صلاح الدين، لم يجد الأسرى قسوة المنتصر، بل واجهوا كرم رجل نبيل يمتلك بصيرة أوسع من ميادين القتال، قابلهم بودّ فاجأهم، لأن غايته لم تكن سفك الدماء، بل استرداد القدس ومن هناك، تحركت جيوشه كالإعصار، تكتسح المدن الساحلية واحدة تلو الأخرى، فسقطت عكا وبيروت وصيدا ويافا وقيسارية وعسقلان، في سلسلة سريعة من الفتوحات، كما نجح في قطع خطوط الاتصال بين الصليبيين وأوروبا، وسيطر على قلاعهم الحصينة جنوب طبرية، باستثناء الكرك وكراك دي شيفاليه، اللتين وقفتا صامدتين كالصخر وسط سيل الانتصارات.
اقتربت اللحظة المصيرية، فوجه صلاح الدين أنظاره نحو القدس، تلك المدينة التي تسكن وجدان كل مسلم، حيث أمر جيشه بقصف الأسوار بالمجانيق، فانطلقت الحجارة تتطاير في السماء، بينما انهمرت السهام على المدافعين كسيل لا يتوقف، مع هذا الهجوم الشرس، تقدم المقاتلون وفتحوا ثغرة في الأسوار، وارتفعت رايات الإسلام فوقها تنذر بقرب الفتح، ورغم شجاعة المدافعين ومحاولاتهم المستميتة، إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير مجرى المعركة، فاندفع المسلمون مرة أخرى في قتال مرير وحازم.
في داخل المدينة، ساد الهلع، وهرع السكان نحو الكنائس يصرخون ويبكون ويصلّون، وضربوا أنفسهم بالحجارة راجين الرحمة، ومع إدراكهم أن الدفاع لم يعد ممكناً، بدأ القائد باليان مفاوضاته مع صلاح الدين، كما توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بتسليم المدينة سلمياً، وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب عام 583 هجري، دخل صلاح الدين القدس، يرفع راية الإسلام، حيث أمر الحامية بتسليم أسلحتها، فاستجابوا، وشهدت المدينة يوماً خالداً رفرفت فيه الأعلام الإسلامية فوق أسوارها، بعد انتظار طويل من الأمة.
لم يكن ذلك النصر نهاية المطاف، فقد رفض صلاح الدين أن يكون الفتح عنواناً للانتقام، قبل قرن من الزمان، عندما اقتحم الصليبيون القدس، أغرقوا ساحاتها بدماء أهلها وقتلوا سبعين ألفاً في المسجد الأقصى، بلا رحمة أو إنسانية أما صلاح الدين، فقد خطّ بيده سطوراً جديدة من التسامح والعدل، لم يشعل نار الانتقام، بل منح سكان المدينة أربعين يوماً للمغادرة، مقابل فدية رمزية لكل رجل وامرأة وطفل، وحتى من لم يملك ثمن الفدية من الفقراء، لم يُترك لمصيره، بل أطلق صلاح الدين سراحه بكرم ورفق، أظهر به عظمة روحه ونبل أخلاقه.



