تاريخ ومزارات

مآذن القاهرة.. تحف معمارية تروي تاريخ الإسلام في قلب العاصمة

لم يكن من قبيل المصادفة أن تلقب القاهرة بمدينة الألف مئذنة، بل هو تعبير بليغ عن العلاقة العميقة والمتجذرة بين هذه المدينة العريقة وعمارتها، وتجسيد واضح لحقيقة أن من تعاقبوا على حكمها أولوا المنشآت الدينية على اختلاف مسمياتها أهمية قصوى، فقد زخرت القاهرة بالمساجد والجوامع والمدارس وبيوت الصوفية، وكانت الغالبية العظمى من هذه المنشآت مزودة بالمآذن التي شيدت خصيصًا لإعلان دخول أوقات الصلاة من شرفاتها.

وفي العصور الوسطى، لم تكن المنشآت الدينية والمدنية تتجاوز في ارتفاعها سقف العشرة أمتار، بينما كانت رؤوس المآذن تعانق السماء، متجاوزة بعشرات الأمتار ارتفاعات المباني، فتتصدر أفق الرؤية، خصوصًا لمن يدخل العاصمة من أطرافها، ما جعل القاهرة تستحق بجدارة لقب مدينة الألف مئذنة.

المآذن القاهرية

ومن الزاوية المعمارية، تكشف مآذن القاهرة، التي لطالما شغلت الباحثين في مجالات الآثار وتاريخ العمارة والفنون، عن مسيرة تطور مزدهرة تنطق بالغنى والتنوع، ويمكن القول بثقة إن القاهرة لا تملك فقط أكبر عدد من المآذن بين عواصم الإسلام، بل تحتضن أيضًا أكبر تنوع من حيث الطرز والأنماط في تاريخ العمارة الإسلامية.

فبعد أن ظهرت أنماط أولية قليلة للمآذن تعرف بـ”الصوامع”، وهو الطراز المتعامد الأضلاع الذي استُمد تصميمه من صوامع معبد حدد الآرامي في العصر الأموي، كما هو الحال مع المئذنة الأولى التي بنيت لجامع عمرو بن العاص بالفسطاط، سرعان ما تخطت مصر هذا الطراز المحدود، ومن ثم انطلقت لتغني العمارة الإسلامية بأشكال مبتكرة، على عكس بلاد المغرب والأندلس التي حافظت على الشكل التقليدي للصوامع في تطوير مآذنها.

مئذنة أحمد بن طولون.. أيقونة معمارية لا نظير لها

وفي عهد أحمد بن طولون، برز في مصر نمط مئذنة سامراء “الملوية”، وفقًا لما ورد في أقوال المؤرخين التي وإن اتسمت بالإبهام، إلا أن تخطيط الجامع الطولوني المشابه لجامع سامراء يعزز هذا الاستنتاج، ومع ذلك، فقد اندثرت تلك المئذنة المبكرة، لتشيد مكانها مئذنة فريدة لا مثيل لها في تاريخ العمارة الإسلامية، وهي المئذنة القائمة حاليًا بجامع أحمد بن طولون.

وقد شهدت القاهرة خلال عهد المماليك، بشقيه البحري والبرجي، طفرة هائلة في بناء المآذن، سواء من حيث تقاليد البناء أو تنوع الأنماط المعمارية، إلا أن الزلزال المدمر الذي ضرب القاهرة عام 702 هـ وألحق أضرارًا بالغة بمعظم مآذنها، كان دافعًا للمعماريين لتبني خطط إنشائية جديدة توازن بين الطول الشاهق والمتانة، لضمان مقاومة الزمن والكوارث الطبيعية.

مآذن قلاوون والأزهر

وفي هذا الإطار، أشار الدكتور أحمد السيد الصاوي، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، إلى أن من بين أبرز المآذن الإسلامية، المئذنة الشهيرة بجامع أحمد بن طولون، والتي تنفرد ببنائها الفريد، فهي تحمل سمات معمارية خلاسية تجمع بين عدة طرز، وتبقى مهيبة رغم تداخل مكوناتها، ويرتبط تاريخ الجامع بالسلطان المنصور حسام الدين لاجين، الذي اختبأ بمئذنته المهدمة أثناء مطاردته من قبل السلطان زين الدين كتبغ، ونذر لله أن يعيد للجامع مجده إن تولاها، وهو ما فعله حين اعتلى الحكم سنة 696 هـ، فأعاد ترميم الجامع وشيد المئذنة التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

كما أوضح “الصاوي”، أن مئذنة مجموعة المنصور قلاوون، التي شيدت بأمر الناصر محمد بن قلاوون سنة 703 هـ، بعد أن انهارت المئذنة الأصلية جراء زلزال 702 هـ. وقد تولى بناءها الأمير سيف الدين كهرداش المنصوري، وتتكون المئذنة من طابقين مربعين يعلوهما طابق مستدير حافل بالزخارف، بينما يعتقد أن قمتها كانت مضلعة مثل مآذن تلك الفترة، ولاعتبارها قريبة من المحكمة الشرعية بالمدرسة الصالحية النجمية، كان القاضي والشهود يصعدون إلى قمتها لاستطلاع هلال الشهور الهجرية، لا سيما هلال رمضان وشوال.

مآذن الأزهر.. منابر العلم والتحشيد الشعبي

أما مآذن الجامع الأزهر، فقد كانت أكثر من مجرد معالم معمارية، إذ لعبت دورًا اجتماعيًا وسياسيًا، حيث استخدمها المماليك، إلى جانب وظيفتها في رفع الأذان، كوسيلة لتحشيد الأهالي وكسب ود العامة وطلاب الأزهر، ويشير “الصاوي”، إلى أن المهندس ابن السيوفي، رئيس المهندسين في عصر الناصر محمد بن قلاوون، هو من شيد المدرسة الأقبغاوية بالأزهر ومئذنتها، التي تعد ثاني مئذنة تبنى بالحجر بعد مئذنة المنصورية، في حين كانت المآذن السابقة تبنى من الآجر كما هو حال مئذنة الصالحية النجمية، كما نسب إليه المقريزي تشييد جامع ألطنبغا المارديني خارج باب زويلة ومئذنته.

الشيخونية.. مئذنتا المواجهة ومقر القيادة الحربية

ولم تخل الشيخونية، الجامع والخانقاه التي شيدها الأمير شيخو العمري الناصري، من لمسة معمارية فريدة، حيث تميزت بمئذنتين متماثلتين متقابلتين عبر الطريق، وهو نمط نادر في العمارة الإسلامية، وقد استخدم طومان باي، آخر سلاطين المماليك، الشيخونية كمقر لقيادة عملياته الحربية ضد العثمانيين، حيث كانت نقطة انطلاق هجماته التي أرقت جنود سليم الأول المتحصنين بقلعة الجبل، ويرجح أن الجامع بني بين عامي 748 و750 هـ، بينما اكتمل بناء الخانقاه عام 756 هـ.

مئذنة مدرسة السلطان حسن

أما مدرسة السلطان حسن، فقد كانت مثالًا على الطموح المعماري والسياسي للسلطان الناصر حسن بن قلاوون، الذي سعى لتحويل سلطنة المماليك إلى ملكية وراثية لنسل قلاوون، مستعينًا بأولاد أمراء المماليك المعروفين بـ”أولاد الناس”، ويرجع الأثري الكبير حسن عبد الوهاب بناء المدرسة إلى المهندس محمد بن بيليك المحسني، الذي خطط عمارتها لتضم أربع مآذن، اثنتان على الواجهة الجنوبية واثنتان على جانبي المدخل، إلا أن سقوط إحداها، مع المئذنتين الجانبيتين، دفع السلطان إلى التشاؤم وإيقاف بنائها، لتظل مئذنتان قائمتان، وقد استخدمت المئذنة الجنوبية لقصف القلعة بالمدافع من قبل المتمردين حتى أغلقت سنة 793 هـ، وأمر جقمق لاحقًا بهدم سلالمها سنة 842 هـ.

مئذنتا المؤيد شيخ

واستطرد “الصاوي”، موضحًا أن جامع المؤيد شيخ يتميز بمئذنتيه الشهيرتين، حيث نذر المؤيد شيخ أثناء سجنه في خزانة شمائل أن يهدم السجن ويبني مكانه مسجدًا إن تولى الحكم، وهو ما نفذه بالفعل، وقد أوكل الإشراف على بناء الجامع إلى بهاء الدين بن البرجي، الذي شيّد مئذنة قرب المدخل، لكنها انهارت سنة 821 هـ فعُزل من عمله، ونظمت أبيات شعرية حينها تدور حول الحسد الذي أصاب بناء الجامع وعظمته.

ولتفادي تكرار انهيار المآذن، استعان المهندس الجديد ببرجي باب زويلة، أحد أبواب سور القاهرة الفاطمي، فاتخذ منهما قاعدتين مرتفعتين لمئذنتين متماثلتين، وسجل محمد بن القزاز، مهندس المئذنتين، اسمه على المئذنة الشرقية قائلًا: “عمل هذه المئذنة المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن القزاز وكان الفراغ أول رجب سنة اثنتين وعشرين وثمان مائة”، ثم دوّن على المئذنة الغربية: “أمر بإنشاء هاتين المنارتين المباركتين سيدنا ومولانا السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ عز نصره وذلك في نظر العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن القزاز والفراغ في شهر شعبان المعظم قدره سنة ثلاث وعشرين وثمان مائة”.

وأعرب الدكتور الصاوي، عن أسفه لتجاهل المؤرخين وكتب التراجم ذكر تفاصيل عن هذا المهندس العبقري، غير أن اعتراف محافظة القاهرة بعبقرية البناء جعل من باب زويلة شعارًا رسميًا لها، ليبقى شاهدًا على عظمة العمارة المملوكية وسطوة المآذن التي أطلت على المدينة وشهدت تاريخها بحلوه ومره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى