مدينة قوريني: جوهرة الحضارة الإغريقية في ليبيا

أسماء صبحي
في شمال شرق ليبيا، وعلى بعد حوالي 200 كيلومترًا شرق مدينة بنغازي، تقع مدينة قوريني، المعروفة حاليًا بـ”شحات”. وتعتبر هذه المدينة واحدة من أهم المستعمرات الإغريقية في شمال أفريقيا. حيث تأسست في القرن السابع قبل الميلاد، وأصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا مزدهرًا على مدار قرون عديدة.
وقوريني ليست مجرد أطلال قديمة، بل هي سجل حيٌّ لتفاعل الحضارات عبر الزمن. فقد مرت بفترات حكم مختلفة، بدءًا من الإغريق، مرورًا بالعهد البطلمي، ثم الحكم الروماني والبيزنطي. مما جعلها مدينة غنية بالتنوع الثقافي والمعماري.
ولا تزال آثارها المذهلة تجذب علماء الآثار والسياح من جميع أنحاء العالم. حيث تضم معابد ضخمة، ومسارح إغريقية، وطرقًا مرصوفة بالحجارة، مما يجعلها إحدى أروع المدن الأثرية في ليبيا.
تاريخ مدينة قوريني
تأسست قوريني عام 631 قبل الميلاد على يد مجموعة من المستوطنين الإغريق القادمين من جزيرة سانتوريني (ثيرا)، بقيادة باتوس الأول، الذي أصبح أول ملك للمدينة. واختار المستوطنون هذا الموقع بسبب تربته الخصبة ومياهه الوفيرة، مما جعلها مكانًا مثاليًا للزراعة والتجارة. وسرعان ما ازدهرت المدينة وأصبحت واحدة من أهم المستعمرات الإغريقية في شمال أفريقيا.
بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 ق.م، أصبحت قوريني جزءًا من مملكة البطالمة، الذين حكموا مصر وليبيا. كما شهدت المدينة خلال هذه الفترة نهضة ثقافية ومعمارية كبيرة. حيث تم بناء العديد من المعابد والمسارح والمنشآت العامة.
في عام 96 ق.م، أصبحت قوريني جزءًا من الإمبراطورية الرومانية. تحت الحكم الروماني، ازدهرت المدينة بشكل كبير. حيث بنيت الحمامات الرومانية، وتم توسيع المسرح الإغريقي، وأُنشئت الطرق المعبدة التي تربطها بالمدن الأخرى.
مع تراجع الإمبراطورية الرومانية، دخلت قوريني في مرحلة من الانحدار. وفي القرن السابع الميلادي، تعرضت المدينة للزلازل والتغيرات السياسية التي أدت إلى تدمير أجزاء كبيرة منها. ومع الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، فقدت قوريني أهميتها تدريجيًا، حتى أصبحت مجرد أطلال شاهدة على مجدها السابق.
أهم المعالم الأثرية
يعتبر معبد زيوس في قوريني من أكبر المعابد الإغريقية في شمال أفريقيا، ويضاهي في حجمه معبد زيوس الأولمبي في اليونان. وبني هذا المعبد في القرن الخامس قبل الميلاد، ويتميز بتصميمه الضخم وأعمدته العالية التي كانت تزينها التماثيل والنقوش الدينية.
كما يعد معبد أبولو أقدم معابد المدينة، حيث يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد. وكان يستخدم كمركز ديني رئيسي في المدينة، وكانت تُقام فيه الاحتفالات والمهرجانات السنوية تكريمًا للإله أبولو.
ويعتبر المسرح الإغريقي أحد أبرز معالم المدينة، حيث كان يتسع لآلاف المتفرجين وكان يستخدم للعروض المسرحية والمناسبات العامة. كما يتميز المسرح بتصميمه الدائري، ومدرجاته المصنوعة من الحجر الجيري، والتي لا تزال في حالة جيدة حتى اليوم.
وتعكس الحمامات الرومانية التأثير الروماني على المدينة، حيث كانت تستخدم كمراكز للاستحمام والاسترخاء. كما كانت هذه الحمامات مجهزة بنظام تدفئة متطور يسمح بتسخين المياه عبر أنابيب تحت الأرض. وهو دليل على التقدم الهندسي للرومان في ذلك الوقت.
يعتبر أيضًا شارع الأعمدة من أشهر معالم قوريني، حيث يمتد لمسافة طويلة وهو محاط بأعمدة ضخمة كانت تزين مداخل المعابد والمباني العامة. كما كان هذا الشارع يمثل قلب المدينة التجاري، حيث كانت تصطف على جانبيه المحلات والأسواق.
أهمية المدينة في التاريخ والثقافة
كانت قوريني مركزًا ثقافيًا وعلميًا بارزًا، حيث عاش فيها العديد من الفلاسفة والعلماء الإغريق. مثل أراتوستينس، الذي وضع نظرية قياس محيط الأرض، وكاليماخوس، أحد أهم الشعراء في العصر الهلنستي.
كما كانت المدينة تشتهر بصناعة الزيوت العطرية، وازدهرت فيها الزراعة بفضل مناخها المعتدل ووفرة مياهها. حيث كانت قوريني تصدّر العديد من المنتجات الزراعية، مثل القمح والزيتون والعنب، إلى مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
ويقول الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار المصري، إن قوريني تعد واحدة من أهم المدن الإغريقية القديمة خارج اليونان. حيث تحتوي على بعض من أفضل الأمثلة على العمارة الإغريقية والرومانية في شمال أفريقيا. كما أن الحفاظ على هذا الموقع ضروري لفهم تاريخ البحر المتوسط.