الحلاج: رحلة التصوف المتمردة من الزهد إلى المحاكمة الدامية

ولد الحسين بن منصور، المعروف بالحلاج، في بلدة البيضاء القريبة من شواطئ خليج فارس الشرقية، لينشأ وسط أجواء تقوده إلى طريق التصوف والزهد. تتلمذ على أيدي أبرز رموز التصوف، أمثال المكي والتستري والشبلي والجنيد، الذي كان مرشده الرئيسي لمدة عشرين عامًا. ومع ذلك، فإن شخصيته المثيرة للجدل وطموحه الكبير دفع مرشده الجنيد إلى الانفصال عنه بسبب تعاليه وغلوه.
تميز الحلاج خلال حجته الأولى بتصرفات لافتة، حيث أقام عامًا كاملًا في المسجد الحرام دون مغادرة إلا قليلًا. وُصف هذا السلوك بأنه تحدٍّ لله بجلده وصبره. كما عُرف عنه أنه لا ينام مضطجعًا، بل كان يظل واقفًا أو يجلس القرفصاء لفترات قصيرة.
عندما عاد إلى بغداد، لجأ مجددًا إلى الجنيد الذي عنفه بشدة بسبب ما وصفه بسوء فهمه للصوفية، وتحديدًا مفهوم “السُكر الصوفي”، وتجاهله للكتاب الكريم وأداء الفرائض. واتهمه بادعاء الألوهية، ما زاد من حدة الخلاف بينهما، ليبدأ الحلاج بعدها بالخروج عن الإطار الصوفي التقليدي.
اختار الحلاج أن يخاطب الناس مباشرة ويخرج من حياة العزلة إلى الوعظ والإرشاد، وهو مسار جرّ عليه المزيد من العداء. اختلط بفئات متعددة، من الفلاسفة مثل الرازي إلى الأمراء مثل أمير طالقان، وأبدى آراءً وأفكارًا حيّرت معاصريه. كما أثار جدلًا بانضمامه في مراحل معينة إلى الدعوة الشيعية وتكريمه للإمام أحمد بن حنبل، الذي كان خصمًا للمعتزلة.
عاد الحلاج إلى بغداد بعد حجه الثالث بتغيرات عميقة، حيث أعلن بوضوح شعوره بالاتحاد بالله. أطلق على هذا الشعور اسم “عين الجمع”، وهو حالة يرى فيها أن الذات لا تفنى كليًا، بل تتسامى لتتصل بالحبيب الإلهي. دعا الحلاج إلى الزهد في رحلاته الطويلة، التي شملت فارس والهند وما وراء النهر ومكة، واستقر أخيرًا في بغداد.
رأي الناس في الحلاج تباين بشدة، فالبعض اعتبره “المخلّص” وأحد الأولياء الصالحين، بينما رآه آخرون دجالًا وملحدًا يستحق الموت. في عام 909م، أُقيمت ضده دعوى قضائية من قبل الوزير علي بن الفرات، ولكن اعتقاله لم يتم إلا بعد أربع سنوات، ليواجه محاكمة طويلة في بغداد.
اتهم الحلاج بالتعاون مع القرامطة والزندقة، وواجه تسع سنوات في السجن قبل أن يُدان بإدعاء الألوهية والقول بالحلول. حاول الدفاع عن نفسه بمفهوم “عين الجمع”، الذي يرى أن الله يتحدث بلسان المتصوف ويكتب بيده، لكن خصومه، بقيادة الوزير حامد، رفضوا هذا الطرح.
صدر الحكم عليه بأمر الخليفة، حيث جُلد وتم التمثيل به وصلبه، قبل أن يُحز رأسه ويحرق جسده، ثم يُنثر رماده في نهر دجلة. هكذا انتهت حياة الحلاج، لكن قصته بقيت رمزًا للتمرد الفكري والتصوفي، مثيرة للجدل والاهتمام عبر العصور.