حوارات و تقارير

لماذا يستغرق الانتقام الإيراني كل هذا الوقت؟

منذ فترة والعالم مشغول بتوقيت الرد القاسي الذي وعد به النظام الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران.

تأجيج التوترات الإقليمية

ولكن إيران، التي لا تنوي المضي قدماً، لا تشعر بقلق كبير. بل إنها تنغمس في هوايتها المفضلة المتمثلة في تأجيج التوترات الإقليمية، ودفع العالم إلى حافة الهاوية، وخلق فجوة زمنية يمكنها من خلالها التفاوض لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. وهذه الأهداف، في نظر إيران، أكثر أهمية من الانتقام لمرتزق فلسطيني مثل هنية أو غيره من المرتزقة الذين وقعوا ضحية لاحتضانهم لإيران.

لا أحد من الخبراء يعتقد حقاً أن الولايات المتحدة وإسرائيل منشغلتان بشكل جدي بمراقبة الاستعدادات الإيرانية للرد . فكل الاستعدادات ما هي إلا إجراءات احترازية. والحقيقة معروفة جيداً بين أجهزة الاستخبارات، التي ترضي غرور الإيرانيين بالمبالغة في تصوير قوة النظام والتعبير عن الخوف والقلق من رد فعلهم ــ وهو بالضبط ما تريده طهران.

وفي اعتقادي أن كل هذه الاتصالات والحوارات العلنية التي جرت خلف الكواليس بين إيران وقادة ومسؤولين من مختلف الدول الإقليمية والغربية بشأن خفض التصعيد ربما وفرت للنظام وسيلة لإنقاذ ماء وجهه. وهذا يسمح له بالتراجع تدريجيا عن تهديداته بالانتقام، وربط هذا “الانتقام” بنتائج المحادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة.

وبهذا انتقلت إيران من فصل موقفها من الرد على اغتيال هنية عن الوضع في غزة إلى الربط المباشر بين القضيتين، ووجدت في هذا النهج حلاً، تسعى من خلاله إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية.

إن أبرز هذه الأهداف هو إيجاد مبرر للتراجع، كعادتها، عن تهديداتها الجوفاء لإسرائيل. وفي هذه الحالة تزعم الجمهورية الإسلامية أنها تضع مصلحة الفلسطينيين في المقام الأول وتحقن دماءهم. أما الهدف الثاني والأخطر فهو محاولة استكمال عملية اختطاف القضية الفلسطينية واستغلالها لصالحها، مع إدراكها لقرب نهاية دور حماس ــ عسكرياً على الأقل.

إن النظام الإيراني يدرك تمام الإدراك أن النهاية العسكرية لحماس تعني نهاية دور إيران في مناقشة القضية الفلسطينية. ولذلك فهو يحاول بكل الوسائل الحفاظ على هذا الدور من خلال المساومة السياسية، للحفاظ على ما تبقى من استثماراته في تمويل وتسليح الفصائل الفلسطينية، وليس كما يدعي الحفاظ على الشعب الفلسطيني. وهو يسعى إلى الظهور كأحد اللاعبين في هذه القضية المركزية في الشرق الأوسط، ويعتقد أنه من خلال الامتناع عن الرد على اغتيال هنية إذا تم التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، فإنه يحفظ ماء وجهه.

لكن الحقيقة الواضحة هي أن إيران تحاول مرة أخرى اختطاف القضية سياسيا، واغتصاب أدوار الآخرين، والادعاء بأنها تملك مفاتيح حل قضية كانت منذ البداية تدفعها فقط إلى العنف وإراقة الدماء.

إيران لا تريد السلام

لم تستغل إيران قط نفوذها وقدرتها الهائلة على خلق الفوضى في خدمة الضغط من أجل السلام، ولم ينطق أي من قادتها بكلمة “سلام”.

لقد حان الوقت لكي يستيقظ الجميع في منطقتنا من وهم القوة الإيرانية ويدركوا أخيرا مدى لعبة التلاعب التي تمارسها إيران. والحقيقة الوحيدة التي تدركها إيران هي أن مصير النظام أهم من حياة المرتزقة والإرهابيين مثل هنية ونصر الله وسليماني وكثيرين غيرهم في القائمة الطويلة من أدوات النظام المفيدة التي يتلاعب بها النظام ليل نهار.

لو كانت إيران تريد حقا وقف إطلاق النار في غزة، لكان بوسعها أن تعرض وقف هجمات حلفائها مقابل تهدئة الوضع، ومع ذلك، طيلة ما يقرب من عشرة أشهر من الحرب حتى الآن، لم تفعل شيئا من هذا القبيل.

والآن قررت أن تعلن أنها لن تضرب إسرائيل إذا ما توجهت المفاوضات نحو التسوية (وكأن هذه المفاوضات هي الجولة الأولى، وكأنها اكتشفت فجأة أنها تملك ورقة مهمة للضغط على الفلسطينيين)، بينما كانت قبل أيام فقط تؤجج نيران الحرب وتحرض وكلاءها على التصعيد على كافة الجبهات.

إيران ولبنان

كعادتها، تفضل إيران التضحية بلبنان وشعبه، وتحريض حزب الله على مواصلة عملية الاستنزاف ضد إسرائيل بعمليات محدودة لا ترقى إلى مستوى الحرب الشاملة. وكعادتها، تحاول إيران إبقاء الجميع مشغولين بألعابها الصبيانية لكسب الوقت ــ وهي تعلم تماماً ما تفعله. ولكن الجمهورية الإسلامية لا تدرك أن الجميع يدركون قوتها السخيفة الباهتة، وأن كلامها وأوهامها حول القوة لم تعد تخدع أحداً في منطقتنا.

أما أولئك الذين ما زالوا ينتظرون الرد الإيراني، فمن الأفضل لهم أن يتذكروا حادثة مقتل الدبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف بأفغانستان قبل 25 عاما. فقد قتلت حركة طالبان الأفغانية 10 دبلوماسيين داخل القنصلية الإيرانية في 8 أغسطس 1998. وتصور كثيرون آنذاك أن إيران ستغزو أفغانستان ردا على ذلك، بعد أن هددت بذلك. ولكن الواقع هو أن إيران تستمر حتى يومنا هذا في إدانة هذه الحادثة ومطالبة الحركة الأفغانية بالتحقيق فيها؛ في حين تعقد صفقات مع طالبان. وهذه الحادثة الكاشفة هي نموذج يجسد نمط تفكير النظام الإيراني ــ والادعاء بخلاف ذلك هو وهم لا يسكن إلا في أذهان مروجيها.

إننا نعلم جيداً أنه لا يوجد في السياسة أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، بل مصالح دائمة. ولكن من الضروري أن نوقف آلة الكذب والخداع، وأن نمارس السياسة الحقيقية وفقاً للمصالح الوطنية، بدلاً من هذه الألعاب المزدوجة.

وفي الوقت نفسه، تظل قواعد اللعبة في الشرق الأوسط دون تغيير، والأوهام المتعلقة بالقوة والثورة ومقاومة “الشيطان الأكبر” (الولايات المتحدة) التي يروج لها النظام الإيراني وغيره لم يعد لها مكان في الواقع.

ويجب التعامل مع هذه الحقائق في إطار البحث عن حلول واقعية للأزمات والصراعات في منطقتنا، بدلاً من انتظار إجابات لن تأتي أبداً، مهما طال انتظارنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى