«جورج موستاكي» حكاية مطرب يهودي تبرع لمصر خلال حرب 1973
قد تبدو القصة غريبة، ولكن حرب أكتوبر المجيدة كانت ملهمة لكل من عاش على أرض مصر باختلاف ديانته، معتقداته أو جنسيته، ومنهم المطرب المصري الفرنسي جورج موستاكي الذي يعد من أوائل المصريين بالخارج المتبرعين لدعم حرب أكتوبر، حيث أقام عدة حفلات بالعربية والفرنسية متبرعا بإيرادها لصالح المقاتلين المصريين في معارك أكتوبر.
تبرع لحرب أكتوبر
«أشهر مطرب في فرنسا» كان هذا وصف درية شرف الدين لـ”موستاكي” في حوار نشر بمجلة «الكواكب» بتاريخ 16 أكتوبر 1973، بعدما التقته في العاصمة الفرنسية بعد أيام من الحرب. وتابعت وصفها بأنه هجر مصر وسافر إلى فرنسا وهو بعمر السابعة عشر، ورغم المسافات لم يقل جهوده عن غيره من محبي الوطن وقرر المساعدة خلال وجوده في باريس.
اعتزم المطرب الراحل جمع التبرعات لمساندة الجيش المصري خلال الحرب. وقام بإحياء حفلات غنائية لجمع إيرادها لصالح الحرب في مصر وكان يحضرها المصريين والعرب. واعتزم إحياء حفلات موسيقية أيضا لـ«جمعية الصداقة العربية الفرنسية» في مقرها بباريس. وكان يدعو أعضاء هذه الجمعية، اليهود «الكين الكين» المؤيدين للعرب لحضور هذه الحفلات مجانا، وخصصت الجمعية إيراد هذه الحفلات لصالح المجهود الحربي في مصر.
مصر الوطن
تحدث عن ذكرياته في مصر – الوطن الذي لم يفارقه – وقال إنه أتم دراسته خلال وجوده بالإسكندرية ثم غادرها مسافرا إلى فرنسا حين بدأت اهتماماته بالغناء تتضح. وترك مصر عام 1951 ومنذ هذا الوقت وحنينه إليها لم يفارقه، دائما ما كان على صلة بأقاربه وأصدقائه وجيرانه. وفي كل مناسبة وطنية كان يحرص على معرفة ما يحدث في مصر. وعاد إليها مرتين خلال 10 أعوام، الأولى عام 1956 يوم تأميم قناة السويس، والثانية في عام 1960، وعاد مجددا إليها بعد الانتصار في حرب أكتوبر.
«من يعرف مصر ومن أتاحت له الفرصة أن يعيش بها.. لابد أن تلهمه الكثير» هذا ما قاله موستاكي في حواره القديم عن الخبرات التي اكتسبها خلال إقامته في مصر. تعلم كيفية الاهتمام بالحياة، وتذوقها وظهر هذا الأمر في أغنياته حيث اكتسب الرزانة والعقلانية وهي صفات نسبها إلى الشعب المصري. ودائما ما كان يتذكر المصريين بعدة صفات كخفة الدم، الكرم، روح الفكاهة والطيبة والطبع الأصيل.
أما عن نجاحه السريع في فرنسا فأرجع ذلك إلى اختياره الأغنية المناسبة التي تظهر للناس في الوقت المناسب، “الأغنية التي تبحث وتتكلم عن اهتمامات الناس وخاصة الشباب”، لأن الاغنية الفرنسية تعتمد على الفكرة. كان الوطن يمثل له الحبيبة، الشباب والأمل في المستقبل. أما الحياة هي الوعود والأماني والأمل وهو ما جسده في أفكار معظم أغانيه.
أمنية تحققت
النشأة على الطرب المصري الأصيل أثرت على موسيقاه. فرغم غنائه وكتابته أغاني الكلمات بالفرنسية إلا أن المطربين المصريين كانوا المفضلين له، مثل أم كلثوم، عبدالحليم حافظ، محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش. وعبر عن أمنيته قائلا: “أعمل على تقوية مستواي في اللغة العربية حتى أستطيع الغناء لهم”.
تحقق الحلم بشكل غير مكتمل. ففي أواخر الثمانينات قدم جورج أغنية من موسيقى لحن لفريد الأطرش وكتب اسمه على الاسطوانة، وأنتجها في عام 1992 في اسطوانة تتضمن 10 أغنيات واحدة منهن كانت معناها بالعربية «الصياد» وغناها على لحن أغنية «عش أنت» للموسيقار الراحل فريد الأطرش الذي غناها قبل وفاته بعامين وهذه بعض أبيات أغنية عش أنت:
عش أنت إنّي مت بعدك وأطل الى ما شئت صدّك
كانت بقايا للغرام بمهجتي فختمت بعدك
أنقى من الفجر الضحوك وقد أعرت الفجر خدّك
وأرقّ من طبع النسيم فهل خلعت عليه بردك
وألذّ من كأس النديم وقد أبحت الكأس شهدك
وتقول كلمات الأغنية الفرنسية:
الصياد، الصياد، وصيد الأسماك
الحب صياد، صياد الليل
كل وحده على متن قارب خشبي
وحدها، وحدها، وأنا وحده معي
يهود مصر
وجورج موستاكي (3 مايو 1934 – 23 مايو 2013)، هو مغني وكاتب أغاني مصري فرنسي من أصل يهودي إيطالي يواني. اشتهر بتقديم الإيقاع الشعري والأغاني البسيطة الرومانسية التي كان يكتبها ويغنيها في بعض الأحيان. ويعد واحدا من رواد الفن الفرنسي. حيث كتب كلمات ما يزيد عن 300 أغنية لأشهر المطربين، مثل داليدا، إديث بياف، إيف مونتاند، باربرا، وفرنسا جال وغيرهم.
ووفقا لما ذكر في سيرته الذاتية بالموقع الخاص الذي يحمل اسمه، ولد جورج نسيم موستاكي جوزيبي موستاكي في محافظة الإسكندرية. والداه سارة ونسيم كانا فرانكوفيل، يهود يونانيون من طائفة الرومانيوت اليهودية القديمة، أصلهم من جزيرة كورفو اليونانية، وانتقلوا إلى مصر. حيث ولد بأحد أرقى متاجر الكتب في الشرق الأوسط التي كان يديرها والده في الإسكندرية، وتعلم بها الفرنسية لأول مرة.
تحدث والد جورج 5 لغات، بينما تحدثت والدته 6 لغات، أما جورج وشقيقتاه الأكبر سنا منه تحدثوا الإيطالية والعربية في طفولتهم، حتى التحقوا بمدارس فرنسية تعلموا فيها اللغة بطلاقة. وفي سن السابعة عشرة، بعد عطلة صيفية في باريس حصل على إذن من والده للانتقال إلى هناك، حيث كان يعمل بائعًا لكتب الشعر وتوصيلها للمنازل.
مدينة العشاق
بدأ العزف على البيانو والغناء في النوادي الليلية في باريس. حيث التقى ببعض أشهر فناني تلك الحقبة، وانطلقت مسيرته المهنية بعد أن عُرف المغني وكاتب الأغاني الشاب وتقديمه إلى الفنانين والمثقفين الذين أمضوا الكثير من وقتهم حول سان جيرمان دي بري، مع تقديمه إلى إديث بياف في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي من قبل صديق كان مدحه لكتاب الأغاني المشاهير.
وأصبح الشاب القادم من الشرق هو المفضل للجميع، منتجين، جمهور، ملحنين وموزعين، وبدأ مسيرة مهنية ناجحة كعازف، وبعدها مطرب يغني بالفرنسية والإيطالية والإنجليزية واليونانية والبرتغالية والعربية والإسبانية، ووصل إلى ذروته الفنية في باريس تحديدا في كتابة الأغاني في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
صرخة الأقليات
أصدر أغنية وصف نفسه فيها بأنه يهودي متجول وراعي يوناني، ورفضت شركات الإنتاج تسجيلها فغناها جورج بنفسه بعد تلحينها، وحققت هذه الأغنية نجاحا هائلا وقضت 6 أسابيع متتالية احتلت فيها الصدارة والمركز الأول في مخططات الإذاعة والحفلات، بل وصفت بأنها صرخة لكل الأقليات.
وعند وفاته، وصفه رجل إسكندراني عجوز كان يعرف جورج بأن «آخر منارة في الإسكندرية ماتت». وكان قد غنى جورج أغنية لحبيبته عروس البحر المتوسط، وتحمل اسم “الإسكندرية” وهذه كلماتها:
أغني لك حنيني
لن اضحك إذا خجلت
ذكرياتي لم تتقدم في العمر
ما زلت أشعر بالحنين إلى الوطن
لقد مرت 25 عاما على العيش بعيدا عنك
عن المكان الذي ولدت فيه
خسة وعشرون شتاءا يثير في ذاكرتي الحنين
العطور والروائح صرخات
من مدينة الإسكندرية
الشمس التي دفئتني في الشوارع
أين اختفت طفولتي!
الأغنية والصلاة الساعة الخامسة
السلام الذي ارتفع إلى قلوبنا
البصل وصحن الفول
بدت لي وليمة الأحلام
التجول على المقاهي والتفلسف
مع كبار السن والحمقى والحكماء والأجانب
العرب اليهود واليونانيون والإيطاليون
كل خير البحر المتوسط
لـالأصدقاء معا في جانب واحد
أصدقاء من الشوارع أو من المدرسة الثانوية
أصدقاء الأيام الجميلة التي عشتها
كنا أطفالا.. أحببت فتاة سرا
ركني المفقود من الجنة
حديقتي الصغيرة المفقودة
منجم ذهب يسمى الإسكندرية
هناك بعيدا عن باريس
أغنيته الصياد على لحن أغنية عش أنت لفريد الأطرش