“الأرابيسك المصري”.. جوهرة الفنون الإسلامية المُهددة بالإنقراض
“جوهرة الفنون”.. هكذا أطلقوا عليه، علماء الفن الهندسي، وأصحاب الحرف اليدوية القديمة، ليصفوا ذلك الشيء الذي أضحي يزين كل نوافذ وأبواب مدن وبلدات مصر المحروسة، حتي الحواري والأزقة في الأحياء الفقيرة، كانت لا تخلو منه، فكانت المشربيات والبوابات، بل وحتي قاعات الجلوس، عنوان ذاك الفن الذي ملئ السمع والبصر في غابر الأزمان.
فن الأرابيسك، ذلك الفن الذي أضحي اليوم مهددا بالإندثار، فلا مؤلفات علمية إهتمت بتدوينه بالشكل اللائق به، ولا ممتهنيه من شيوخ الحرفة سربوا بعض من أسراره للأجيال القادمة، فطبقا لهذا العصر الذي تتحكم فيه الآلة علي كل حرفة ومهنة، أصبحت الحرف والفنون اليدوية تراث مهددة بالضياع.
” المشرابية، التوريق، الميموني”.. بعض الأسماء التي أشتهرت به فنون الأرابيسك في مصر، عبارة عن سلسلة متكررة من الأشكال الهندسية على طريقة العاشق والمعشوق، وعادة ما يقوم صانع الأرابيسك بإضافة بعض الزخارف النباتية المحفورة من الزهور، والأوراق، والثمار، ليكسر جمود القطعة الخشبية، ويضفي عليها بعضا من الحياة والتفاؤل والمرح.
قباب المساجد وغلاف القرآن الكريم كان أول ما ربط فن الأرابيسك بالعالم الإسلامي، ولكنه في حقيقة الأمر أمتد ليزين المراقد والأضرحة والرحلات التي كان يوضع عليها القرآن وكتب الأدعية للقراءة والتلاوة، كما برع فنانوا الأرابيسك، عندما استخدموا الزخارف النباتية الطبيعية من أفرع وأوراق وسيقان وزهور، لتتداخل مع الكتابات، والتي سميت بالكتابات المشجرة، فأصبح الأرابيسك جزء لا يتجزأ من الخط العربي، فنجد الكثير من الآيات الكاملة تكلل قطع الأرابيسك، ليكتمل بذلك وحدة هذا الفن، ليصبح رمزا لنقل روحانيات القرآن عبر التاريخ.
وفي هذا السياق قال محمد نور الدين الباحث في التراث الإسلامي، ولد فن “الأرابيسك” مع بداية عهد الدولة الفاطمية في مصر، فالحروب الكثيرة التي خاضتها الدولة الناشئة ألزمتها باستخدام الكثير من الأخشاب، والتي كان عماد صناعة الأسلحة في ذلك الوقت، وما يتبقى من الأخشاب قطع صغيرة، يتم إرسالها إلي النجارين والحرفيين، وهم بدورهم استغلوها في صناعة أشكال هندسية بسيطة، استخدموها في صناعة النوافذ المُطعمة بالقطع الخشبية، لتصبح النبتة الأولي لصناعة “المشرابيات” في مصر.
نوه نور الدين، وفي العصر العباسي تطور فن الأرابيسك، فقد اهتموا بالعلوم والترجمة، علي الأخص علوم أفلاطون وإقليدس وإبرهما جوبتا، ما أدي إلي زيادة المعرفة بالأشكال الهندسية والحسابات، وبذلك أصبح أمام فنان الأرابيسك فرصة أكبر ليطور من فنه فنمى وازدهر، وفي القرن التاسع عشر، استدعى سلاطين الدولة العثمانية في اسطنبول صانعي الأرابيسك المصريين، ليقوموا بحرفتهم بتزيين قصورهم، فانتقلوا إلى بلاد الشام ومنها إلي الأناضول، ومن أغرب ما رويي عن هؤلاء الصانعين، أن سلاطين العثمانيين احتجزوهم بعد إنهاء عملهم، ولم يعودوا إلى مصر، وعرف في التاريخ بما يسمى “بالأسر الفني”.
وقال نور الدين، انتقل فن الأرابيسك المصري من خلال العثمانيين ليستوطن كل البلاد التي فتحوها، ولم يتوقف عند تزيين القصور والمنازل، ولكن، ولدقة وبراعة وجمال هذا الفن الذي يتلألأ ويتلاءم مع الطبيعة الثقافية والحضارية في ذلك الوقت، اقتحم عالم المساجد، فقاموا بتزيين القباب والمنابر والنوافذ.
رغم انتشار فن الأرابيسك في كافة الدول العربية والأوروبية، إلا أن الحرفيون المصريون مازالوا الأكثر مهارة، ولا ينافسهم سوى الصانع السوري، وإن كان الصانع المصري تفوق عليه في انتقاء أفخر أنواع الأخشاب في صناعته، فغالبا ما يستخدم خشب الكافور والصندل في إنتاج القطع الأرابيسكية.
الشهرة التي طالت فن “الأرابيسك المصري”، كانت أحد أهم العوامل التي جذبت السائح الأجنبي، فزيارة واحد إلي “خان الخليلي” وحي “الجمالية”، كفيلة بأن تجعلنا ندرك حجم الشغف وراء ذلك الفن رفيع المستوي، فغالبا ما يسعي السائح الغربي وراء اقتناء تحف الأرابيسك المصري المرصع بالأصداف المختلفة، أو ما يُسمي بـ”التصديف الهندسي”، والذي يستخدم قطع صغيرة من الأصداف لتزيين العلب، فالسائح الأوروبي يقدر الجهد المبذول والإحترافية الفائقة التي تحملها هذه القطع، في حين يفضل السائح العربي “التصديف التشجيري”، والذي يستخدم في صناعة الصناديق والكراسي والقطع الخشبية الكبيرة.
أما عن “المشرابية”، وهي مجرد نافذة كبيرة ذو رف توضع في مكان عالي من المنزل، تُصنع خصيصا لجرار الماء المصنوعة من الفخار “القلل” لتبريدها، ومن هنا سميت مشرابية، أما “المشرفية”، فهو شباك يطل على الشارع، له باب قلاب، والمرافع توجد داخل المنازل ذات الأسقف العالية، وتوضع على الحائط مثل مرافع بيت السحيمي، وزينب خاتون، ومسافر خان، وهي نوافذ تفوح منها رائحة ذكية كلما أطلت عليها الشمس، لأنها صنعت من خشب الصندل.
الضرائب المفرطة على الخامات ودخول الآلة في مراحل التصنيع أهم الأخطار التي تهدد فن الأرابيسك المصري بالاندثار، فبعد مرور ألف عام استطاع فيه الصانع المصري الحفاظ على فنه التقليدي، دخلت الآلة لتفقد المنتج مذاقه اليدوي الخاص، الذي يجعل كل قطعة متفردة بذاتها، تعكس ذوق وفن الصانع، لتتحول القطع إلى قوالب متكررة، ليس بها أي نوع من أنواع الإبداع والإبتكار المتفرد.
المصنوعات الصينية أيضا كان لها دور محوري في القضاء علي تلك الحرفة اليدوية، فما يأتي من مصنوعات مقلدة تغزو الأسواق بأبخس الأسعار، ولكنها في نفس الوقت تعجز عن صنع التعشيق والتطعيم والنقش المتقن بالروح المصرية الأصيلة، وهو ما أعطي قبلة الحياة لتلك الحرفة اليدوية، والتي لُقبت بـ”جوهرة الفنون”، وسمح لها بالبقاء علي أيدي بعض شيوخ الحرفة في مصر، والذين لُقب بعضهم بـ”ملوك الأرابيسك”، واغلبهم يستوطن شارع “خان الخليلي”، ليحافظوا على أصالة تلك الصنعة التي توارثوها ويورثونها للأجيال القادمة.
“جوهرة الفنون”.. هكذا أطلقوا عليه، علماء الفن الهندسي، وأصحاب الحرف اليدوية القديمة، ليصفوا ذلك الشيء الذي أضحي يزين كل نوافذ وأبواب مدن وبلدات مصر المحروسة، حتي الحواري والأزقة في الأحياء الفقيرة، كانت لا تخلو منه، فكانت المشربيات والبوابات، بل وحتي قاعات الجلوس، عنوان ذاك الفن الذي ملئ السمع والبصر في غابر الأزمان.
فن الأرابيسك، ذلك الفن الذي أضحي اليوم مهددا بالإندثار، فلا مؤلفات علمية إهتمت بتدوينه بالشكل اللائق به، ولا ممتهنيه من شيوخ الحرفة سربوا بعض من أسراره للأجيال القادمة، فطبقا لهذا العصر الذي تتحكم فيه الآلة علي كل حرفة ومهنة، أصبحت الحرف والفنون اليدوية تراث مهددة بالضياع.
” المشرابية، التوريق، الميموني”.. بعض الأسماء التي أشتهرت به فنون الأرابيسك في مصر، عبارة عن سلسلة متكررة من الأشكال الهندسية على طريقة العاشق والمعشوق، وعادة ما يقوم صانع الأرابيسك بإضافة بعض الزخارف النباتية المحفورة من الزهور، والأوراق، والثمار، ليكسر جمود القطعة الخشبية، ويضفي عليها بعضا من الحياة والتفاؤل والمرح.
قباب المساجد وغلاف القرآن الكريم كان أول ما ربط فن الأرابيسك بالعالم الإسلامي، ولكنه في حقيقة الأمر أمتد ليزين المراقد والأضرحة والرحلات التي كان يوضع عليها القرآن وكتب الأدعية للقراءة والتلاوة، كما برع فنانوا الأرابيسك، عندما استخدموا الزخارف النباتية الطبيعية من أفرع وأوراق وسيقان وزهور، لتتداخل مع الكتابات، والتي سميت بالكتابات المشجرة، فأصبح الأرابيسك جزء لا يتجزأ من الخط العربي، فنجد الكثير من الآيات الكاملة تكلل قطع الأرابيسك، ليكتمل بذلك وحدة هذا الفن، ليصبح رمزا لنقل روحانيات القرآن عبر التاريخ.
ولد فن “الأرابيسك” مع بداية عهد الدولة الفاطمية في مصر، فالحروب الكثيرة التي خاضتها الدولة الناشئة ألزمتها باستخدام الكثير من الأخشاب، والتي كان عماد صناعة الأسلحة في ذلك الوقت، وما يتبقى من الأخشاب قطع صغيرة، يتم إرسالها إلي النجارين والحرفيين، وهم بدورهم استغلوها في صناعة أشكال هندسية بسيطة، استخدموها في صناعة النوافذ المُطعمة بالقطع الخشبية، لتصبح النبتة الأولي لصناعة “المشرابيات” في مصر.
وفي العصر العباسي تطور فن الأرابيسك، فقد اهتموا بالعلوم والترجمة، علي الأخص علوم أفلاطون وإقليدس وإبرهما جوبتا، ما أدي إلي زيادة المعرفة بالأشكال الهندسية والحسابات، وبذلك أصبح أمام فنان الأرابيسك فرصة أكبر ليطور من فنه فنمى وازدهر.
وفي القرن التاسع عشر، استدعى سلاطين الدولة العثمانية في اسطنبول صانعي الأرابيسك المصريين، ليقوموا بحرفتهم بتزيين قصورهم، فانتقلوا إلى بلاد الشام ومنها إلي الأناضول، ومن أغرب ما رويي عن هؤلاء الصانعين، أن سلاطين العثمانيين احتجزوهم بعد إنهاء عملهم، ولم يعودوا إلى مصر، وعرف في التاريخ بما يسمى “بالأسر الفني”.
انتقل فن الأرابيسك المصري من خلال العثمانيين ليستوطن كل البلاد التي فتحوها، ولم يتوقف عند تزيين القصور والمنازل، ولكن، ولدقة وبراعة وجمال هذا الفن الذي يتلألأ ويتلاءم مع الطبيعة الثقافية والحضارية في ذلك الوقت، اقتحم عالم المساجد، فقاموا بتزيين القباب والمنابر والنوافذ.
رغم انتشار فن الأرابيسك في كافة الدول العربية والأوروبية، إلا أن الحرفيون المصريون مازالوا الأكثر مهارة، ولا ينافسهم سوى الصانع السوري، وإن كان الصانع المصري تفوق عليه في انتقاء أفخر أنواع الأخشاب في صناعته، فغالبا ما يستخدم خشب الكافور والصندل في إنتاج القطع الأرابيسكية.
الشهرة التي طالت فن “الأرابيسك المصري”، كانت أحد أهم العوامل التي جذبت السائح الأجنبي، فزيارة واحد إلي “خان الخليلي” وحي “الجمالية”، كفيلة بأن تجعلنا ندرك حجم الشغف وراء ذلك الفن رفيع المستوي، فغالبا ما يسعي السائح الغربي وراء اقتناء تحف الأرابيسك المصري المرصع بالأصداف المختلفة، أو ما يُسمي بـ”التصديف الهندسي”، والذي يستخدم قطع صغيرة من الأصداف لتزيين العلب، فالسائح الأوروبي يقدر الجهد المبذول والإحترافية الفائقة التي تحملها هذه القطع، في حين يفضل السائح العربي “التصديف التشجيري”، والذي يستخدم في صناعة الصناديق والكراسي والقطع الخشبية الكبيرة.
أما عن “المشرابية”، وهي مجرد نافذة كبيرة ذو رف توضع في مكان عالي من المنزل، تُصنع خصيصا لجرار الماء المصنوعة من الفخار “القلل” لتبريدها، ومن هنا سميت مشرابية، أما “المشرفية”، فهو شباك يطل على الشارع، له باب قلاب، والمرافع توجد داخل المنازل ذات الأسقف العالية، وتوضع على الحائط مثل مرافع بيت السحيمي، وزينب خاتون، ومسافر خان، وهي نوافذ تفوح منها رائحة ذكية كلما أطلت عليها الشمس، لأنها صنعت من خشب الصندل.
الضرائب المفرطة على الخامات ودخول الآلة في مراحل التصنيع أهم الأخطار التي تهدد فن الأرابيسك المصري بالاندثار، فبعد مرور ألف عام استطاع فيه الصانع المصري الحفاظ على فنه التقليدي، دخلت الآلة لتفقد المنتج مذاقه اليدوي الخاص، الذي يجعل كل قطعة متفردة بذاتها، تعكس ذوق وفن الصانع، لتتحول القطع إلى قوالب متكررة، ليس بها أي نوع من أنواع الإبداع والإبتكار المتفرد.
المصنوعات الصينية أيضا كان لها دور محوري في القضاء علي تلك الحرفة اليدوية، فما يأتي من مصنوعات مقلدة تغزو الأسواق بأبخس الأسعار، ولكنها في نفس الوقت تعجز عن صنع التعشيق والتطعيم والنقش المتقن بالروح المصرية الأصيلة، وهو ما أعطي قبلة الحياة لتلك الحرفة اليدوية، والتي لُقبت بـ”جوهرة الفنون”، وسمح لها بالبقاء علي أيدي بعض شيوخ الحرفة في مصر، والذين لُقب بعضهم بـ”ملوك الأرابيسك”، واغلبهم يستوطن شارع “خان الخليلي”، ليحافظوا على أصالة تلك الصنعة التي توارثوها ويورثونها للأجيال القادمة.