السقا.. المهنة التي روت ظمأ المصريين ألف عام
منذ أكثر من قرن ونصف، وتحديدًا في العام 1865، بدأت واحدة من أهم وأقدم المهن في مصر في الإختفاء، وذلك حينما أصدر الخديوي إسماعيل قرارًا بتطوير القاهرة وتحويلها إلي مدينه تضاهي أكبر وأجمل المدن الأوروبية، ما أثر علي تلك المهنة التي روت ظمأ المصريين لأكثر من ألف عام، لتأخذ مهنة “السقا” في الاحتضار رويدًا رويدًا، لتختفي بكل كامل مع مطلع القرن العشرين.
“السقا” أو “السقاية” أو “السقاء”، أي حامل وناقل الماء للمنازل، وهي مهنة قديمة كانت تنتشر في الحارات الشعبية والأماكن العامة بمصر حتي نهايات القرن التاسع عشر، يعمل بها رجل أو إمرأة، يحمل كل منهم جرة أو قربة مصنوعة من جلد الماعز، يملؤها بالماء من النيل أو من أحد الأسبلة أو الخزانات، ثم يقوم بنقلها إلي المنازل والمساجد والمدارس في مقابل مبلغ مُتفق علية، ومع بداية تطور القاهرة الخديوية بدأت مهنة “السقا” في الاندثار بشكل كبير.
البداية كانت مع الكتاب الغربيين الذين وصفوا القاهرة بقولهم “خير لك أن تسمع عن القاهرة من أن تراها، فهي عاصمة البعوض، ويعيش زائرها طوال العام تحت الناموسية”، ما أثار حماس إسماعيل باشا وجعله يرد عليهم قائلا “أم القاهرة ستكون قطعة من أوروبا وسوف تكون أجمل من باريس”، فسخروا منه وكتبوا له “من يشرب من ماء النيل مرة يعود فورًا لبلاده ليُعالج من إصابته بالملاريا والحمي المعوية بسبب طفح المجاري، مما كان يضطر الأهالي لوضع الطوب والحجارة لعمل ممرات مشاة يسيرون عليها”، فرد عليهم إسماعيل باشا بمخططه لتصميم القاهرة الجديدة وبقوله “من يشرب ماء النيل مرة فسيوعود أليه المرة تلو المرة”.
اعتمد تخطيط القاهرة الخديوية علي إنشاء البنية التحتية، فكان تأسيس آلات الضخ وأنابيب توزع المياه داخل مدينة القاهرة، وهو ما أدي إلي قلة الاعتماد علي “السقا”، ولكنه في نفس الوقت لم ينته نهائيًا، فما زال يحيط بالقاهرة أكثر من 70 منطقة عشوائية لا تصلهم المياة النظيفة، لذا كان المضروري وجوده لنقل المياة إلي تلك المناطق لخدمة الأهالي، وكانوا يتخذون من حي “باب البحر” مقرًا لهم، وذلك منذ أن أمر صلاح الدين الأيوبي عام 1174 ميلادية، بتشييد باب يطل على النيل ويقع بجوار “باب زويلة” في نهاية السور الشمالي الغربي للقاهرة، ليضمن السقاؤون التواجد بالقرب من مصادر المياه والمتمثلة في نهر النيل.
قديمًا لم يكن لمنازل ومباني القاهرة مصدرًا يعتمدون فيه علي مياة الشرب، فالمصريون لم يكونوا يعرفون شيئًا عن صهاريج المياه أو الصنابير، والتي لم تكن موجوده إلا في القصور الملكية والمساحد الضخمة، لذا لم يكن هناك غني عن السقا، وكانوا ينتمون لستة طوائف للسقائين، لكل طائئفة شيخ يتولي شؤون طائفته، طائفتان منهم في باب اللوق، تقوم أحدهما بنقل المياة بواسطة الإبل، والأخري بواسطة الحمير، وهناك طوائف باب البحر، وحارة السقائين، وقناطر السباع، وطائفة سادسة تُعرف باسم الكيزان، سُميت بهذا الإسم لأن السقا يحمل في يده “كوز”، أو كوب من النحاس، يطوفون الشوارع والحارات والأزقة حاملين قرب المياة علي ظهورهم، ويقدمون المياة للمارة والباعة.
لم يكن اختيار “السقا” من الأمور السهلة، ولكنه كان يتطلب بعض الشروط القاسية للموافقة علية، حيث كان علي المتقدم لهذه المهنة اجتيازه اختبار مبدئي لكي يلتحق بوظيفة “السقا”، وهو أن المتقدم لابد أن يحمل قربة وكيس ملئ بالرحمل يزن حوالي 67 رطلًا لمدة ثلاثة ايام وثلاثة ليالي دون أن يُسمح له بالاتكاء أو الجلوس أو النوم، بالإضافة لإكتسابه بعض الصفات، كالأمانة والنظافة والاتقان، فقد كان الشخص الوحيد المسموح له بدخول المنازل، تجده دائمًا يسير في شوارع المحروسة، حاملًا قربته المليئة بالماء البارد، وقد وضع مادة “الشبه” لينقي الماء من رواسب طمي النيل ويصبح نظيفاً وصالحًا للشرب.
ولما كان السقا هو الوحيد الذي يُسمح له بدخول المنازل، والتجول في الحارات والأزقة، فكان لا يجوز له تولي تلك المسئولية إلا بعد الحصول علي رخصة مزاولة مهنة من نظارة الداخلية، تلك الرخصة كانت تحتوي علي إسم الساقي وبياناته والشوارع والحارات المسموح له بالتجول فيها، وكان علي السقا وضع تلك الرخصة علي كتفه برباط من الجلد، ليتيح للجميع التعرف عليه وتفرقته عن أصحاب المهن الأخري، في شوارع المحروسة في نظام دقيق لكل اصحاب الحرف القديمة.
أهم ما كان يميز السقا تلك القربة التي كان يحملها علي ظهره طيلة عمله لأكثر من 12 ساعة كاملة، وهي مصنوعة من جلد الماعز، وكانت تتسع لما يقرب من 20 لترًا من المياه، وقد فسر الباحثين أن جلد الماعز بعد دبغه يساعد في برودة الماء، بل ويحافظ علي درجة حرارتها الباردة، وكانت تُغلق بسدادة خشبية، وكان الساقي يُعطر الماء بوضع بعض المستكة وماء الورد، وأحياناً يضيف إليها بعض النعناع، ولم يكن دوره فقط حمل الماء إلي المنازل أو بيعه بالأسواق، ولكنه كان يقوم ايضًا برش الحارات والأزقة والشوارع في أوقات الصيف الحار، وإخماد الحرائق.
الحقيقة أن مهنة السقا، ورغم أهميتها، كانت ذات بريق أقل بكثير من بعض المهن كالنجارة والحدادة والتجارة، وحتي المكارية والعربجية كانت لمهنهم بريق يفوق بريقها، فقد كان السقا أحد أفقر المهن في مصر المحروسة، فقد كان دخل السقا من تلك المهنة يختلف تبعًا لوفرة المياة وقلتها، فطبقا للمؤرخين كان ثمن ما يتقضاء سنة 1830 نظير قربة من المياه، ويقوم بنقلها لمسافة ثلاثة كيلومترات من 10 إلي 30 فضة، وهو مبلغ ضئيل ويُعد أقل التعريفات المصرية في ذلك الوقت، وكان يحصل عليها في بادئ الأمر من خلال بعض العلامات التي يقوم بوضعها علي جدار كل منزل، وعندما شعر بأن بعض المنازل تقوم بمسح تلك العلامات، قام بإعطاء صاحب المنزل مجموعة من الخرز، وفي كل مرة يأتي له بالماء يأخذ واحدة، حتى ينتهي العدد فيتلقى أجرته كاملة.
“أما السقا فهم علي نحو ما رسل الحريم”.. هكذا وصفه جاء وصفهم في كتاب وصف مصر، فقد كان يُنظر إلي السقائين علي أنهم مجرد “خدم” للنساء، حيث جاء نصًا “وينتهي بهم الأمر بأن يكونوا أموالاً من الحريم والنساء وهن اللائي يخترنهم ويتبادلنهم فيما بينهن ويتمتع هؤلاء الخدم عامة بحظ أوفر من الآخرين ويوليهم أرباب البيوت أكبر قدر من الرعاية وتبسط النساء عليهم حماتيهن ويحرصن علي اراحتهم”.
دائماً ما يأتي علي لسان الببغاء عبارة “أبوك السقا مات”، تلك العبارة التي التقطها الأديب المصري يوسف السباعي في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ليعبر من خلالها علي اندثار تلك المهنة العريقة، والتي عمرت لأكثر من ألف عام، روت عطش المصريين أينما وجدوا، حتي جاء قرار الخديوي بتطوير القاهرة وتحويلها إلي باريس الشرق، وهو ما لا يستقيم معه شخص يحمل المياه علي ظهره، يبدو فقيرًا يعيش علي العطايا والإحسان وعطف الناس لمساعدته علي العيش.