حوارات و تقارير

حرب أخرى.. الروسية في أوكرانيا لغة تولستوي وبوشكين أم بوتين؟

دعاء رحيل

 

استعمال اللغة الروسية من أكثر القضايا جدلا وسخونة على المستوى السياسي بين روسيا وأوكرانيا، فكييف ترفض أن تكون لغة رسمية، وموسكو ترى أن في منعها “اضطهادا لحقوق الرعايا والأقليات”.

وعلى ذرائع منع اللغة واضطهاد الرعايا -وغيرها- بنيت الكثير من قرارات روسيا السياسية المثيرة للجدل، بدءا من ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وصولا إلى الاعتراف بما يسمى “جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين” عام 2022، وحتى شن الحرب على أوكرانيا.

فكيف ينظر الأوكرانيون العاديون إلى هذا الموضوع؟ وهل يشاطرون الساسة ذلك الجدل حول “المنع والرسمية”؟

لا قيود على الحديث

المتجول شرق أوكرانيا إلى غربها يدرك جيدا أهمية هذا للسكان، فمعظم حديثهم بالروسية في مناطق الشرق، في حين أن الصورة تتبدل في مناطق الوسط المختلطة، كالعاصمة كييف، وتصبح مغايرة تماما في مناطق الغرب.

وقد يختلف الحال في بعض القرى والبلدات الصغيرة، حتى وإن كانت في مناطق شرقية حيث يبرز انتشار الأوكرانية أكثر من الروسية، مع لهجة خاصة تكاد تجمع بين اللغتين معا، وهذا حال قرى في الغرب الأوكراني تأثرت -هي الأخرى- بالبولندية أو لغات دول مجاورة.

لكن اللافت هنا أن الجدل في هذه الأرجاء غائب، فلا قيود على الحديث. واليوم، رغم أن نحو 7 ملايين أوكراني نزحوا داخليا عن مناطق شرقية إلى مناطق الغرب الناطقة بالأوكرانية، فلا يعتبر هذا محل جدل أو حساسية تذكر.

في مدينة لفيف -مثلا- تسمع اليوم الروسية في كل مكان، والفنادق تعلن أن موظفيها يتحدثون الأوكرانية والروسية والإنجليزية، ولمزيد من “الحسم” في هذا، على ما يبدو، دعا عمدة لفيف، أندري سادوفي، السكان إلى احترام ومساعدة “المواطنين الأوكرانيين الناطقين بالروسية”.

أين تتركز القيود ويكمن الجدل؟

القيود المفروضة على استخدام الروسية مركزة على أسماء الأماكن والمحلات والمعاملات الحكومية وغيرها، وهذه قيود برزت وبدأت بعد أحداث “الثورة البرتقالية” عام 2005، وتعززت بعد ما يسمى ثورة “الحرية والكرامة” عام 2014، لتشمل حظر القنوات التلفزيونية والمواقع الروسية.

كما تضم هذه “القيود” حتمية أن تكون الأوكرانية لغة وحيدة في جميع مؤسسات الدولة ومعاملاتها، وأساسية في الجامعات والمدارس ورياض الأطفال الحكومية، وهنا قد يكمن “الجدل الأكبر”.

ماذا حققت “أكرنة” الدولة؟

يدفع هذا الجدل إلى التساؤل حول الأسباب التي تدفع أوكرانيا نحو التمسك بالأوكرانية لغة رسمية وحيدة رغم تنوع سكانها، وبحظر القنوات والمواقع الروسية، وما الذي حققته هذه “الأكرنة” على مدار السنوات القليلة الماضية؟

أجملت البروفيسورة سولوميا بوك، أستاذة اللغات بأكاديمية “الثقافة وأسلوب الحياة” في لفيف، الأسباب والنتائج بعدة نقاط: أولها، مكافحة التضليل، حيث ترى أن اللغة باتت سلاحا روسيا لنشر “الأكاذيب والبروباغاندا” في البلاد.

وتستشهد هنا بالحراك الانفصالي الذي شهدته مناطق الشرق عام 2014، ثم بحجم الرفض والمقاومة الشعبية الذي قوبلت به روسيا في تلك المناطق خلال حرب 2022، رغم أنها -حتى اليوم- ناطقة بالروسية.

وتضيف “فرق شاسع بين روسية الأمس وروسية اليوم. إنها لم تعد بالنسبة لكثيرين لغة تاريخ وفن مشترك وأدباء مصلحين دعوا إلى السلام، مثل تولستوي وبوشكين، بل لغة تضليل ومحتل معتد اسمه بوتين”.

وثاني الأسباب “إحياء الهوية والمشاعر الوطنية” إذ تعتبر بوك أن التركيز على الأوكرانية دفع الأوكرانيين إلى التمسك أكثر بخصوصية هويتهم وثقافتهم وفنهم، وأحيا لديهم الحس الوطني وإرادة الدفاع عن الوطن.

وتابعت “في أوكرانيا الكثير من القوميات والأقليات، والكثير من المدارس والجامعات الخاصة بهم أيضا، حتى أنه -منذ فترة الاتحاد السوفياتي- تنتشر في كل مدينة مدارس حكومية نظامية متخصصة، تدرس اللغات والثقافات بتركيز أكبر، كالروسية والفرنسية والعربية والصينية والإسبانية وغيرها. وبالتالي، لا أتقبل فكرة وجود اضطهاد يستهدف الناطقين بالروسية ثانية أكثر اللغات استخداما في البلاد”.

كيف ينظر الأوكرانيون إلى لغاتهم؟

وفي لفيف اليوم، وبحكم كثرة أعداد النازحين، تستطيع أن تحصل على كثير من العينات والآراء حول هذا الموضوع، بحكم أنها مدينة غربية، ونسبة كبيرة من المقيمين فيها “شرقيون”.

ليليا من سكان خاركيف شرق البلاد، تقول (بالروسية) “درست -كمعظم أبناء جيلي- بالروسية، بينما تدرس ابنتي بالأوكرانية. كثيرا ما أشعر أنها أوكرانية أكثر مني، وأشد تعلقا بالبلاد، وتفاعلا مع أحداثها”.

وأضافت “إنها تنظر بشكل مغاير تماما إلى هويتها وتاريخها والمستقبل، وأعتقد أننا كنا مغيبين عن هذه الحقيقة، لأننا كنا مبرمجين وموجهين فكريا، خلال فترة الاتحاد السوفياتي وبعده”.

وفي لفيف كتب السائق أندري “لا أتحدث الروسية ولا أدعم لغة العدو” قائلا: “أحترم من يتحدث معي بالروسية، وهم يحترمون هذا الموقف مني. نحن نفهم بعضنا طبعا ولكني أعتقد أن سياسة الدولة صائبة، وأن علينا التحول بشكل تام نحو الأوكرانية، رسميا وشعبيا، وأن الأجيال القادمة ستكون كذلك”.

مبادرة احترام شاملة

ولأن اللغة وحقوق الرعايا من أبرز القضايا الخلافية بين روسيا وأوكرانيا، ومن أبرز المواضيع على طاولات التفاوض حاليا بين الجانبين في خضم الحرب، أطلق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي -على ما يبدو- قبل أيام، مبادرة لتوقيع اتفاق يجمع دول الجوار كلها، عنوانها “احترام اللغة والتاريخ”.

بحسب مراقبين، فإن مبادرة زيلينسكي قد تخفف الجدل حول هذه القضية بين موسكو وكييف، وبين الأخيرة وبودابست أيضا، والتي تثير من حين لآخر مسألة حقوق أقلياتها بإقليم زاكارباتيا جنوب غرب البلاد.

لكن “الأوكرانية ستبقى لغة رسمية وحيدة في البلاد” بحسب ما أكد وزير الخارجية دميترو كوليبا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى