د. عبدالحليم قنديل يكتب..
نهاية “آبى” وسدّه
ربما لن يختلف كثيرا مصير “آبى أحمد” رئيس وزراء أثيوبيا عن نهاية سلفه الأسبق “مانجستوهيلا ميريام” ، فقبل ثلاثين سنة ، هرب “مانجستو” بجلده إلى “زيمبابوى” ، وقد يهرب “آبى” إلى مدينة زجاجية على شاطئ الخليج العربى ، بينما الطرف المنتصر فى الحالتين من العنوان نفسه تقريبا ، وبالذات من “جبهة تحرير شعب تيجراى” ، التى قادت حكم أثيوبيا لمدة 27 سنة ، قبل أن يصعد “آبى” عام 2018 ، ويكون بعدها حزب “الإزدهار” الذى كان طريقا ممهدا لانهيارحكمه وربما أثيوبيا ذاتها .
كان حكم “مانجستو” من مواليد فترة التوسع السوفيتى “الماركسى” جنوبا ، وبدأت سيرته الدموية بقتل سلفه الإمبراطور “هيلاسلاسى” فى حمام قصره ، واستمر يحكم بالحديد والنار من 1974 إلى أوائل تسعينيات القرن العشرين ، حين ترنح فسقط مع ضعف فتوقف العون السوفيتى ، وفى الوقت نفسه تقريبا ، الذى تداعت فيه نظم الحكم “الشيوعى” بأفغانستان واليمن الجنوبى ، بينما كانت موسكو “الشيوعية” نفسها على حافة النفس الأخير ، وكان “مانجستو” فى حوليات التاريخ الأثيوبى ، آخر “أمهرى” يحكم” أديس أبابا” ، وخلفه الزعيم الشاب “ميليس زيناوى” ، “التيجرانى” الذى توفى عن 57 سنة عام 2012 ، ليعقبه التيجرانى “هيلا ميريام ديسالين” حتى عام 2018 ، حين تصاعد غضب قومية “الأورومو” من حكم تسيطر عليه “التيجراى” ، ووقع الاختيار على آبى أحمد رئيسا للوزراء ، الذى كانت أصوله “الأورومية” من مؤهلاته ، فوالده كان أوروميا ومسلما ، بينما أمه وزوجته من قومية “الأمهرة” المسيحية الأرثوذكسية ، وهو نفسه مسيحى بروتستانتى تابع لكنيسة أمريكية ، وبدت أحواله المختلطة كعناصر تصالح سياسى ، خففت قليلا من غضب وثورات “الأورومو” ، لكن لم يدم شهر العسل مع “آبى” طويلا ، بسبب طموحه لأن يكون امبراطورا “أمهريا” جديدا ، وتكوينه لحزبه “الإزدهار” ، الذى سعى لدمج أعراق أثيوبيا الثمانين فى قومية تعسفية واحدة ، يقودها الأمهرة أساسا ، تماما كما كان ماضى الأباطرة من “مينليك الثانى” إلى “هيلاسلاسى” ، وهو ما جمع الأضداد فى حلف اضطرارى واحد ، على نحو ماجرى أخيرا فى حلف الأقاليم التسعة الذى أعلن من واشنطن ، وشارك فى قيادته جيش “الأورومو” وجيش التيجراى” ، واتخذ اسما مؤقتا هو “الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفدرالية الأثيوبية” ، وكانت إضافة كلمة “الكونفدرالية” لافتة ، فهى تتيح لأقاليم أثيوبيا الفيدرالية العشرة ، حق استقلال الجيوش والعلاقات الخارجية ، كما حق الانفصال وتقرير المصير الوارد أصلا فى المادة 39 من الدستور الأثيوبى ، وهو ما قد يعنى أننا هذه المرة ، قد لا نكون بصدد نظام يخلف نظام “آبى” فقط ، بل بصدد استراحة موقوتة من حرب أعراق ، قد تختفى معها أثيوبيا التى نعرفها ، وتنتهى إلى مصير يشابه ما جرى فى يوغسلافيا السابقة ، التى حلت على أنقاضها ست دول إضافة لمقاطعة “كوسوفو” ذات الحكم الذاتى ، ربما مع فارق أن أثيوبيا قد تتجاوز التقسيم السباعى ، وبطلاق دموى غالبا بعد رحيل “آبى” المنتظر ، وهو ما نبهنا إليه بوضوح قبل أكثر من عامين .
وقد لا يكون مهما أن تتوقف عند ما يقال عن أدوار خارجية وراء ما يجرى داخل أثيوبيا ، أو عند ما يقال بالذات عن دور للدولة المصرية ومخابراتها ، على طريقة مزاعم آبى أحمد المحاصر اليوم داخل “أديس أبابا” ، بينما الدولة المصرية نفسها صامتة رسميا ، ولا تسمح لإعلامها المرئى غالبا بتناول ما يجرى فى أثيوبيا ، وكأنها تكتفى بالوقوف عند حافة نهر النيل ، تنتظر الجثث ، ونهاية صداع “سد النهضة” الأثيوبى ، الذى لا يشكل خطرا حتى اليوم على حصة مصر من مياه النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب فى السنة ، وقد زادت ولم تنقص للمفارقة ، وإن كان الخطر واردا مع الملء الثالث لبحيرة السد فى يوليو 2022 ، بعد فشل جولتى الملء الأولى والثانية ، واحتجازهما معا لما لا يزيد عن ثمانية مليارات متر مكعب مياه ، لا تثير مخاوف كبرى فى حال توجيه ضربة محتومة لسد الخراب ، أو لسده الركامى المساعد “السيرج” ، وعلى مدى الشهور المقبلة ، سوف تواصل القاهرة غالبا ضغطها الصامت ، بعد أن قررت اتخاذ إجراءات طوارئ فى “بحيرة ناصر” خلف السد العالى ، تزيد من الطاقة التخزينية الهائلة ، وبما يكفل استيعاب كل المياه المحتمل ورودها حال انهيار السد الأثيوبى ، تلقائيا أو بفعل ضربة ، خصوصا بعد ما جرى ويجرى من تقويض للخطر الأثيوبى برمته ، وانفساح المجال لاحتمالات وتغيرات دراماتيكية فى المشهد الأثيوبى ، قد لا تتأخر كثيرا ، وقد يتقلص مداها إلى أسابيع ، وقد لا تتضمن بالضرورة حربا مهلكة داخل “أديس أبابا” نفسها ، وهى مدينة كبيرة نسبيا يزيد عدد سكانها على الخمسة ملايين ، وتقع جغرافيا برغم انفصالها الإدارى داخل إقليم “الأورومو” ، الذى تقترب قواته المتمردة من العاصمة ، التى يسميها “الأورمو” بلغتهم “فين فينّى” لا “أديس أبابا” ، ويحرص “جيش تحرير الأورومو” على الوصول إليها أولا ، برغم التحالف الميدانى المعلن مع “جيش التيجراى” ، الذين يديرون الخطط العسكرية بإحكام أكبر، ويرفضون أى تفاوض ، لا يكون من نتائجه ذهاب “آبى أحمد” المتهم عندهم بذبح وتشريد وتجويع شعب التيجراى بملايينه السبعة ، وهؤلاء يرون أنهم الأحق بحكم أثيوبيا ، ويعتبرون أن أرض تيجراى “رحم الأمة” الأثيوبية ، وقد كانت موطنا لمملكة “أكسوم” القديمة سنة 980 قبل الميلاد ، وبرغم اشتراكهم فى “المسيحية الأرثوذكسية” مع “الأمهرة” ، إلا أن الطرفين باتا فى حالة “تار بايت” ، وقد يكون “سد النهضة” مما يجمع التيجراى مع الأمهرة ، وقد بدأ زيناوى “التيجرانى” رحلة السد ، وقرر زيادة طاقة تخزينه من 11 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا ، وبما حوله إلى مشروع كارثى الأثر مستقبلا على حصة مصر المائية ، لكن ما جرى ويجرى فى النهر والسد وأثيوبيا ، لا يعنى بالضرورة ، أن قائد التيجراى الجديد “دبرصيون جبرميكائيل” ، قد يتبنى ذات السياسة المناوئة لمصالح مصر ، فأولوياته اليوم هى الخلاص من غريمه آبى ، ومن تسلط “الأمهرة” الأحباش المتعجرفين ، إضافة لطبيعة التحالفات الراهنة المتطلعة لوراثة الحكم ، وهى مختلفة كثيرا عن تحالفات التيجراى زمن الحرب على حكم “مانجستو” ، فثمة وزن أكبر هذه المرة لحضور العرقيات ذات الأغلبية المسلمة ، وأولهم قومية “الأورومو” ، التى تشكل أكثر من ثلث مجموع سكان أثيوبيا رسميا ، وتصل بهم تقديرات أخرى إلى نحو نصف السكان المئة والعشرين مليونا ، إضافة لسكان إقليم “بنى شنقول” المقام على أرضه “سد النهضة” نفسه ، وهؤلاء فى أكثرهم مسلمون عرب سودانيون ، وهدفهم الغالب هو الاستقلال وترك أثيوبيا كلها ، ومشاعرهم بالطبيعة مع مصالح مصر والسودان ، وقد كانوا ضحية لاتفاقات الاحتلال البريطانى مع “مينليك الثانى” مؤسس أثيوبيا الحديثة ، خصوصا فى اتفاق 1902 ، الذى أعطى البريطانيون بموجبه إقليم “بنى شنقول” السودانى كهدية لأثيوبيا ، مقابل تعهد أثيوبيا بعدم إقامة سدود أو إعاقة جريان النيل الأزرق من منابعه الأثيوبية ، وقد جرت عادة حكام أثيوبيا المتأخرين من “زيناوى” إلى “آبى” ، على رفض الالتزام باتفاق 1902 ، وهو ما يعنى بالمقابل ، أن من حق أهل “بنى شنقول” اكتساب استقلالهم من جديد ، وهو ما قد تنفتح له المسالك أكثر اليوم مع انهيارات أثيوبيا المتسارعة ، وقد كانت “حركة تحرير بنى شنقول” أكثر من أصر على تضمين كلمة “الكونفدرالية” فى عنوان التحالف التساعى المتمرد ، وهو ما يكفل لهم حق الاستقلال أو الانضمام للسودان ، وينهى ولاية “أديس أبابا” على مشروع سد النهضة ، مع الأخذ فى الاعتبار طموحات “الأورومو” هذه المرة ، وعزمهم على تضييق فرص سيطرة التيجراى مجددا ، وقد تواصل العداء والصدام بينهما لعقود ، وكانت تكونت حركتا تحرير “الأورومو” و”التيجراى” منذ آخر أيام هيلاسلاسى ، وضد هيمنة “الأمهرة” البالغ عددهم نحو خمس إجمالى سكان أثيوبيا ، وفيما لا يحمل “التيجراى” ودا تاريخيا كافيا لمصر ومصالحها ، فإن “الأورومو” المسلمين بأكثريتهم ، يقفون على الجانب الآخر ، وقد يكون تجميد مشروع السد محطة لقاء واردة .
والمحصلة المرئية ببساطة ، أن توالى تصدعات أثيوبيا ، وإنهاء حكم “آبى أحمد” ، قد يؤدى لعصور احتراب أهلى طويل فى أثيوبيا ، وفى بلدان القرن الأفريقى بعامة ، وكلها متداخلة الأعراق ، ولدى أغلبها “ثارات تاريخ” مع الكيان الأثيوبى ، الذى تحول إلى سجن كبير للشعوب ، وعصا غليظة لقهر الجيران ، وضم أراضيهم عنوة ، وزوال “آبى” المتوقع ، قد يفسح المجال لنهاية ميراث القهر كله ، ورسم خرائط جديدة ، تنهى مطامع ومطامح الأحباش فى معاندة التأثير المصرى عند منابع النيل ، وتجرف فى طريقها كوارث السد الأثيوبى ، بالجملة أو بالتقسيط الزمنى .