د. صلاح سلام يكتب..
إفطار بطعم النصر
لم يكن شهر رمضان في مدينتي الصغيرة التي ظلت سنوات تحت الاحتلال الإسرائيلي، لم نكن نحس فيها بطعم رمضان ولا طقوسه حتى المسحراتي كان يخشى أن يخرج ليلا خوفا من دوريات عسكر اليهود..ولم يكن الإرسال التليفزيوني يصل إلينا إلا بالكاد في الليالي الصيفية وسرعان ما يختفي، ونعيش فقط على صوت محمد رفعت والنقشبندي ومسلسلات الراديو في إذاعة القاهرة مع فؤاد المهندس وشويكار وسمسمية سيد الملاح والمخرج سمير عبد العظيم وروعاته على إذاعة الشرق الأوسط، وأحيانا ربما نرى تليفزيون الأردن أو لبنان.. ولكن أهم حدثين كانا في شهر رمضان ارتباطا بالذاكرة..أولهما..في عصر يوم من أواخر رمضان عام ١٩٧٠ حيث كنت أقف في “الدكان” الذي دشنه إخوتي بعد النكسة مباشرة كمصدر لإعاشة الأسرة، حيث توقفت الوظائف والأملاك أصبحت خاوية بعد أن هجرها ساكنوها إلى الضفة الغربية من القناة، وكنت وأخي ندير المكان بعد أن قبضت السلطات الإسرائيلية على أخي الأكبر بتهمة توصيل السلاح للفدائيين بمنظمة سيناء العربية وحُكم عليه بخمس سنوات.. وكانت المفاجأة أنه ينزل من تاكسي ببيحامة السجن ليتناول منّي بعض النقود ليدفع له الإيجار.. وأنا في قمة الفرحة فقد أفرجوا عنه مع مجموعة بمناسبة قرب عيد الفطر بعد ٣ سنوات، بعد أن تقدمت والدتي بالتماس للمحكمة العليا.. وكان هذا نهاية لمعاناة شديدة حيث توقف أخي الذي يكبرني مباشرة عن الدراسة ثلاث سنوات وأنا أيضا تأخرت عاما حتى نستطيع إدارة شئون الأسرة التي انقسمت، نصفها تحت الاحتلال والنصف الآخر على الضفة الغربية للقناة حيث كانوا في القوات المسلحة إما مجندا أو عاملا.
أما المشهد الثاني فهو أيضا عصر يوم العاشر من رمضان وفي نفس المكان، حيث يفترش الباعة الأرصفة بخيرات وادي العريش الطازجة يبتاعونها لسد احتياجاتهم المتواضعة وهي عادة رمضانية.. ينطلق صوت الراديو بالبيان رقم واحد ..وكان معظم الناس لا يكترثون كثيرا بما تذيعه محطات القاهرة تأثرا بما حدث في ١٩٦٧ ولكن سنوات حرب الاستنزاف أعادت الثقة جزئيا للإذاعة، وما أن انطلقت البيانات الواحد تلو الآخر وإذاعات العالم تؤكد ما جاء في البيانات وبمصداقية تامة، وإذ قاربت الشمس على المغيب وإذا بصوت ابن سيناء حلمي البلك ينطلق بالبيان رقم ٥ وأن قواتنا المسلحة بدأت العبور على طول جبهة القناة إلى أن وصلنا إلى بيان العبور والاستيلاء على الضفة الشرقية للقناة. وتسمرت العيون والآذان بأجهزة الراديو وترك الباعة تجارتهم مع كل مارش لبيان عسكري ولم تغلق المحال أبوابها يومها للعودة لتناول الإفطار، فالإفطار كان جماعيا في شارع ٢٣ يوليو ولم تغلق الأسواق ولم نخفِ فرحتنا برغم الاحتلال، فانطلقت الزغاريد من خلف أسوار البيوت وبلغت القلوب الحناجر من فرط فرحتها وتنفسنا الصعداء.. أخيرا قام المارد وانتفض ليلقن المعتدي درسا قاسيا لن ينساه، وتوالت أيام الشهر الفضيل تحمل العزة والفخر بالنصر وبعد تطور الهجوم كنا نرى الإمدادات من الأسطول السادس الأمريكي تنزل على شاطئ العريش وبعقولنا الصغيرة ووطنيتنا الجارفة كنا نحاول عرقلة سير ركب السيارات والمدرعات بأن نضع على الطريق الساحلي ألواحا خشبية بخوازيق من المسامير أو نجر بعض جذوع النخل لوضعها كمتاريس، حيث كان الطريق ضيقا ويمكن بسهولة عرقلة سير الركب، حتى ولو لساعات. وكنا نقوم بذلك بتلقائية ونحن لا ندري العواقب.
أما ما قمنا به ولم نكن نعلم أنه عمل وطني بامتياز هو أننا كنا ننقل أكياس الدقيق الصغيرة على الدراجات، حيث كنا نعتقد أننا نفعل ذلك خوفا من الأيام القادمة وشُح الدقيق كما حدث في حرب ١٩٦٧ ، ولكن اتضح أن بداخل أحد هذه الأكياس جهاز لاسلكي يتم تحريكه من مكان لآخر حتى لا يستطيع العدو رصد تردده، وكانت المجموعة المكلفة تتحرك بذكاء وتحركنا أيضا بذكاء أشد دون أن نعلم.. واستطاعوا كما علمنا فيما بعد رصد كل تحركات العدو وإمداداته والإبلاغ عنها أولا بأول.. هكذا كانت أيامنا المجيدة وذكريات رمضان في زمن الاحتلال الإسرائيلي.. أيام لا تنسى مازالت محفورة في الذاكرة كأنها الأمس، والحكاية لها تفاصيل كثيرة ربما يمتد العمر لنحكيها.