في ذكرى ميلاده.. طلعت حرب حكاية الرجل الذي هزم الهيمنة وبنى الاقتصاد الوطني
أميرة جادو
بينما يعبر المارة يوميًا أمام تمثال طلعت حرب فى قلب القاهرة، نادرًا ما يتوقف الكثيرون أمام حقيقة أن هذا الرجل لم يكن مجرد مصرفى ناجح، بل كان صاحب مشروع وطنى متكامل غير ملامح الاقتصاد المصرى خلال النصف الأول من القرن العشرين.
النشأة والبدايات
وفي مثل هذا اليوم ولد محمد طلعت حسن محمد حرب فى 25 نوفمبر 1867 بقصر الشوق فى حى الجمالية بالقاهرة، لأسرة مصرية تنتمى فى جذورها إلى محافظة الشرقية، حفظ القرآن فى طفولته قبل أن ينتقل إلى التعليم النظامى، وأتم دراسته الثانوية بمدرسة التوفيقية، ثم التحق بمدرسة الحقوق المصرية وحصل على الليسانس عام 1889، مع اهتمام لافت بالقراءة فى الاقتصاد والفكر العام وإجادة اللغة الفرنسية.
تدرج وظيفى وصناعة خبرة
بدأ حياته المهنية مترجمًا بقلم قضايا “الدائرة السنية”، ثم ارتقى حتى أصبح مديرًا لقلم القضايا، لاحقًا انتقل إلى القطاع الخاص مديرًا لشركة “كوم أمبو” للاستصلاح الزراعى، ثم تولى إدارة الشركة العقارية المصرية، حيث عمل على “تمصيرها” حتى صار أغلب رأسمالها فى يد المصريين، فى وقت كانت فيه كبرى الشركات والبنوك تحت سيطرة أجنبية شبه كاملة.
رؤية اقتصادية مبكرة
ومن موقعه فى قضايا الأراضى والديون، لمس طلعت حرب حجم الهيمنة الأجنبية على الاقتصاد المصرى، فبلور مبكرًا رؤيته فى كتابه “علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة” الصادر عام 1913.
كما قدم فى كتابه تحليلًا دقيقًا لاختلال البنية الاقتصادية منذ عهد الخديوى إسماعيل، وكيف ذهبت فوائد النمو إلى البنوك والشركات الأجنبية، مدعمًا ذلك بجداول توضح الديون وحركة الصادرات والواردات.
واقترح فى نهايته إنشاء بنك وطنى للمصريين يكون أداة لاستعادة الثروة والقرار الاقتصادى.
هذه الرؤية لم تبق كلمات على الورق، بل تحولت خلال سنوات قليلة إلى مشروع عملى سيغير المشهد الاقتصادى فى مصر.
تأسيس بنك مصر
وفى 5 أبريل 1920 صدر المرسوم السلطانى بتأسيس “بنك مصر” كشركة مساهمة وطنية، ليصبح أول بنك تؤسسه وتملكه أغلبية مصرية، ويدار باللغة العربية وبكوادر وطنية، مع قصر امتلاك أسهمه على المصريين فقط، فى مواجهة البنوك الأجنبية التى سيطرت على السوق آنذاك.
كان جوهر فلسفة طلعت حرب بسيطًا وعميقًا: تجميع المدخرات الوطنية الصغيرة فى وعاء واحد، وتوجيهها نحو مشروعات إنتاجية وخدمية تبنى اقتصادًا وطنيًا مستقلًا، لذلك لم يكن البنك مجرد مؤسسة مالية، بل منصة لإطلاق شبكة واسعة من الشركات الوطنية.
إمبراطورية شركات مصر
ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضى، أسس بنك مصر تحت قيادة طلعت حرب عشرات الشركات التى حملت اسم “مصر” فى مجالات متنوعة، من بينها:
- شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى (1927) التى أصبحت أحد أعمدة الصناعة الثقيلة الوطنية.
- شركة مصر لصناعة السينما “استوديو مصر” (1925) التى لعبت دورًا جوهريًا فى ولادة السينما المصرية الحديثة.
- شركة مصر للطيران (1932) كأول شركة طيران وطنية فى الشرق الأوسط.
- شركة مصر للتأمين، ومصر للسياحة، ومصر للملاحة البحرية، فضلًا عن شركات للكتان والحرير ومصايد الأسماك وتصدير الأقطان وغيرها.
مواقف وطنية حاسمة
لم يكن طلعت حرب رجل أرقام فقط، بل كان مفكرًا وطنيًا حاضرًا فى قضايا بلاده الكبرى، فعندما طرح فى مطلع القرن العشرين مشروع تمديد امتياز قناة السويس لصالح الشركة الأجنبية، ألّف كتابه الشهير عن القناة، موضحًا بالأرقام حجم الخسائر التى ستلحق بمصر فى حال تمديد الامتياز.
و أسهمت دراساته فى تشكيل رأى عام ضاغط أدى إلى رفض التمديد آنذاك.
كما ظل يدعو إلى استقلال القرار الاقتصادى عن النفوذ البريطانى، مؤكدًا أن التحرر الحقيقى يبدأ من السيطرة على المال والإنتاج، لا من السياسة وحدها، وهو ما برز فى خطاباته وكتاباته التى ربطت بين النهضة الاقتصادية والكرامة الوطنية.
وفاته
فى أواخر الثلاثينيات تصاعدت الضغوط على بنك مصر بفعل الأزمات العالمية والخلافات الداخلية، ما أدى إلى استقالة طلعت حرب من إدارة البنك عام 1939، قبل أن يرحل فى أغسطس 1941 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين.



