رحلة إلى قلب بولاق أبو العلا: حكايات التاريخ وشجاعة الأبطال
في ضوء الغروب، كنت أتجول في شوارع بولاق أبو العلا، ذلك الحي العريق الذي ينبض بأرواح الوطنيين والكرماء، والهواء مشبع بعبق التاريخ، يتسلل من بين جدران المنازل العتيقة المبنية من الطوب الأحمر، حيث كل زاوية تخفي قصة من قصص المقاومة والجود، تتخيل نفسك تمشي على ضفاف النيل، تسمع صوت المياه الهادرة تروي سرًا قديمًا، وفجأة يظهر الحي أمامك كالشبح من الماضي يهمس مرحبًا بك في بولاق أرض الجمال الخفي.
رحلة إلى قلب بولاق أبو العلا
كان اسم بولاق لغزًا يتنازع عليه الرواة منذ قرون، تقول بعض الروايات إن الحملة الفرنسية التي هبطت عام 1798 اختلقت أسطورة بو لاك أي البحيرة الجميلة لتضيف لمسة أوروبية على هذه الأرض، لكن الحقيقة أعمق بكثير، فبولاق كانت موجودة قبل وصول نابليون، منذ عهد الفاطميين، حين كانت مجرد أرض خصبة تطل على النيل وتغمرها فيضاناته السنوية، ويروي بعض كبار السن أن أصل الحي يعود إلى غرق سفينة عملاقة في الخليج الناصري القديم، فارتفع التراب من قاع النهر وبنيت عليه مدينة جديدة، كأن النيل أراد أن يخلق جنة على ضفافه.
مع حملة نابليون، بدأ الاهتمام بالضاحية، فشق المهندس لوبيريه طريقًا مستقيمًا من الأزبكية إلى بولاق مزروعًا بالأشجار لتسهيل مرور الجيوش الفرنسية، لكن السكان لم يستقبلوا الغزاة بالترحاب، بل بالقوة والرفض، أما العصر الذهبي لبولاق فكان في عهد محمد علي باشا، الذي أمر باستكمال الطريق بين قلب القاهرة وضاحية بولاق، فانتشرت الحياة في الشوارع الضيقة وارتفعت الجدران، وبُنيت دار لصناعة السفن على الشاطئ استعدادًا للحملة الوهابية، وكانت السفن تُبنى تحت ضوء القمر، وأصوات الحدادين تملأ الأجواء، بينما النيل يشهد ولادة أسطول مصري يتحدى البحار.
التاريخ هنا ليس مجرد بناء، بل قصة دماء وشجاعة، عندما وصلت الحملة الفرنسية عام 1798، واجهها المصريون بصدور عارية في ثورات القاهرة الأولى والثانية، وبرز الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من قرية بشتيل إلى القاهرة، تاجرًا كبيرًا ووكيل زيوت في بولاق، أمانته جعلته شاهبندر الحي، لكنه رفض الخضوع للاحتلال وخطط للجهاد الشعبي، مخزنًا البارود والأسلحة في مخازنه، منظمًا المقاومة ضد الفرنسيين.
في إحدى الليالي، داهمت قوات نابليون الوكالة وعثروا على البارود المخفي، فقبضوا على البشتيلي وسجنه، لكنه خرج لاحقًا وانضم إلى الثورة الثانية، قاد الرجال في بولاق كأنهم أمواج النيل، وأجبر كليبر على سحب قواته، رغم الخيانة الثانية واعتقال أقاربه وأتباعه، لم ينكسر البشتيلي، واستشهد في النهاية بطريقة وحشية أمام العامة، لكنه بقي رمز الحرية والشجاعة في تاريخ بولاق.
اليوم، يروي الحي قصصه من خلال مساجده الثلاثة الشهيرة: مسجد زين الدين يحيى عام 1448، ومسجد السلطان أبو العلا عام 1485 الذي أعطى الحي اسمه، ومسجد سنان باشا عام 1571، القصر من الرخام الذي يهمس بالصلاة والتاريخ، وفي الشوارع، تجد شارع السبتية، سينما على بابا وسينما فؤاد، وكالة البلح القديمة، إسطبل الملك المهجور، حمام التلات الشعبي، ومدرسة عباس الإعدادية والمهنية، كلها شاهدة على الماضي والحاضر متشابكة كأنها رواية حية.



