فنون و ادب

 حاتم عبد الهادي يكتب :شذرات من الذات والكون: قراءة في شعر” أسماء بنت صقر القاسمي”

حاتم عبد الهادي يكتب :شذرات من الذات والكون: قراءة في شعر” أسماء بنت صقر القاسمي”

 

 

 

أى موسيقا للشجن والحزن تلك التى تعزف عليها شاعرتنا الرقيقة  أسماء بنت صقر القاسمى فى ديوانها البديع ( شذرات من دمى ) ؟! ثم ما الذى يجعلنا نقدم لها بهذه المقدمة التى أراها تنقص من بعض الاستقبال الحافل الذى يمكن للقارىْ أن يستقبله لهذا الديوان البهى ..

ان  أسماء تجدل – هنا – من صوف المفردات عباءة تتوشّى بها وتطرحها على عيوننا ، فننجذب معها مثل فراشات تهفو الى ضوء منبعث من كوة السحر ، والجمال المتأرجح بين ذات سامقة ، وأحزان تتلوّى من داخلها ، فتشعل جذوة الروح والفؤاد لديها ،فنتساوق معها عبر سدم الوقت ، وسهوب الجراح والألم ، نتعاطف معها وندخل الى ذواتنا لنعيد رتق منظومة للشجن الشائق والبهى والمائز أيضاً

هذا وتجىء اللغة التجريدية السوريالية عندها لتعرى ذواتنا أمام العالم فننطلق غير آبهين لهواء يطيّر أثواب الشوق لليلة مسائية شاتية ، بل نتراتب عبر أردية الليل لتحط يمامات رؤانا عند قمر يسطع بنور الحقيقة واليقين

ان أسماء تخرج علينا من كوّة النور والشمس الصباحية لتعبىء صباحاتنا بمزهرية ذاتها الصادقة التى كشّفت لنا سهوباً مترامية على مرمى الروح ، فترانا نختلخ الى ذواتنا نستنطقها ولنسألها : لآى سوف ننتسب ؟!

 حاتم عبد الهادي يكتب :شذرات من الذات والكون: قراءة في شعر" أسماء بنت صقر القاسمي"
حاتم عبد الهادي يكتب :شذرات من الذات والكون: قراءة في شعر” أسماء بنت صقر القاسمي”

 

أسماء تجرد لغتها وتكثفها ، فلا نلمح رتابة أو ترهل ، بل تجىء لغتها لتصور الذات المتساوقة مع الحلم والعالم فى ألق بهى مائز وبديع.

ما أشهى انهمار رؤى الليل فى أروقة الروح ، حيث تشدنا الرغبة معها الى عالم التصوف ، فنقابل الحلاّج ، وابن الفارض ، ونسكر من خمر صوفيتهم البهية تقول :

تنهمر رؤى الليل

فى أروقة الروح

فتشدنا الرغبة الى الهذيان

يناجينا ابن الفارض

والحلاج

تسكرنا خمرة صوفيتهم

المعتقة فى تباريح العشق

فنسمو فى فضاءات

الذاكرين

 

 

انها تتماهى عبر تراتيل الذكر مع سيمفونية البهاء لتعطرنا بأريج يتصل ببهاء الأنوار الساطعة من الفيوضات الروحية لكنها لاتتماهى مع الذاكرين لتنسى ، أو تتناسى آلامها ، اذ نراها تبحث عن مجهول غير محدّ ، عبر لغتها التجريدية المكثّفة والموجهة أيضاً تقول :

نردد تراتيل الأسئلة

والجنون

نهيم وسط نفثات البخور

ورقصات المريدين

فتنكشف لنا أسرار

المجهول

انها فى حلقات الذكر تهيم ، ولكن ليس مع الذاكرين ، بل مع ألمها ، ووحدتها ، وخوفها من المجهول الذى يتكشّف لها مع تمايل المريدين ، وسط حلقات الذكر ، حيث تلتحم بذاتها فتتجلى لها فيوضات نورانية تطهّر الروح ، وتكشف لها سدم المجهول ، وأفق الحقيقة الغائمة.

ربما كانت شذرات ذهب قلبها تنبىء عن ألم دفين ، أو ألم زاعق يتخفى عبر ترهات الذات وعوالمها ، كأننا أمام معمل لتحليل تلك الشذرات ، فنفصل كريات دمها عن بعضها لنتعرف الى تلك الشذرات التى تشفّ عن خوف من مجهول غامض ، غير معلوم ، ووحدة تفيض بأسئلة تعصف بالذهن فتحيله الى هيولى التقوقع عبر شرنقة ذات تحلم بالحب وتتأمل مجهولاً يعصف بمركب السعادة بقلبها الشفيف ليحيله الى قلق ذاتى وكونى ، فتتسق أحزانها بالكون والطبيعة والعالم والأشياء

ان الحزن والألم ومفردات القلق تتبدّى بداية من العنوان : (شذرات من دمى ) وتمتد الى عناوين قصائدها : تراتيل الأسئلة ، غربة الصمت ، ذاكرة الأشياء ، حقبة أحزانى ، براعم على قارعة ألم ، غربة ، خارطة التيه ، صلاة حزنى ، أشجار الألم ، تساقط ، ناسوت أشجانى ، شذرات روح .

كما أن باقى قصائدها تعتصرها وتتوزع بين جنباتها معانى القلق ، والخوف ، والاغتراب النفسى ، والحزن المطعّم برائحة أمل ، أو بمسحة رقيقة من وميض بارقة نور لصباح ربما يطل عليها من شرفة للروح يوماً ما ، أو هو أمل لا يجىء ، وتأمل أن يأتى ، الا أنها تشك فى عدم مجيئه ، فنراها تسبح فى ذاتها ،وتكوّر ألمها بجسدها ، فتحيله الى كومة أحزان متراتبة ومتواشجة..

الا أننا نراها تعقد جدلية هائلة بين صورة الماضى بجنونه الذى يصدّره للذات ، وبين ثبات الجسد ،فيتم بلورة ذلك فى العقل الذى بدأ يتصدع من كثرة التفكير، الا أنها تحيل ذلك الى هيولى ممتد وسديم حالم خارج نطاق التكوين ، تقول :

فى غيبوبة التجلى

يمارس الماضى جنوته

فى جسد الحاضر

الكون يسوده السكون

ترانيم الشجن تعزفها أصابع

الليل

الغارقة فى سبات العتمة

تشكيلات التفكير

تتعدى مرحلة النشء

تشطح

نشطح

تشطح

خارج نطاق التكوين

هذا ونلاحظ تكرار الفعل تشطح ، لتؤكد الحالة النفسية غير المستقرة ، والتى تتوزّع بين خيالات الماضى ، وسكون الحاضر ، وقلقه الوجودى الذاتى ، عبر الماهيات المحلّقة فى سدم العقل والكون ، وكأنها تدور بالعقل عبر دوائر مستمرة وسريعة ، فتغيب النفس والروح ، ويدورالعقل ، وكأنه – كما ذكرت من قبل – يدور مع حلقات الذاكرين ، ولكن الصورة هنا أكثر سرعة وتكثيفا ووضوحاً ، ومع هذا لاتكتف بذلك بل نراها تكمل الدوران فتقول :

تعزف على أنغام أوتار المشاعر

أنغام الشك

واليقين

تتوارى الرؤى

كتوارى الغسق

خلف عتمة القدر

تبحث عن اندلاق فجر

ينساب كارتعاشة المطر

تهبه الريح ترنيمة حب

تلوّن ملامح الأفق

الغائب عن ذاكرة الأشياء

بألوان الطيف

تحوم حول الضوء

كفراشات السراب

ترسم على صفحاته

أنشودة الضجيج

لتبعثرها ذاكرة الأمكنة

على سطور الحلم

انها هنا التقطت بارقة أمل عبر ( ترنيمة حب ) – التى جاء ذكرها عرضها – فنراها تلوّن ملامح الأفق ، وتعود لتدور فى فلك الصراع من جديد ، مثل فراشة الضوء التى تحوّم حول السراب ، فنراها عبر دائرة القلق ، والضجيج ، ترسم بألوان الطيف أنشودة غريبة ، لضجيج النفس ، والعالم ،ولكننا مع ذلك نراها تبعثر كل ذلك على سطور الحلم ، فهى فى تناقضاتها تحاول أن لا تكترث بالأمل ، أو لاتنخدع بأمل كاذب ، كأمل فراشة الضوء ، ومع عدم اكتراثها ، الا أن التشتت ، والعصف الذهنى ، قد جعلها تصدح بأنشودة حزينة ، أنشودة لضجيح النفس والعالم الحياة

تبدو الشاعرة / أسماء القاسمى ، عبر رؤاها المشتّتة كغريق فى بحر، يحلم بقطعة خشب ، لكنها تظل تضحك ولا تكترث ومع ذلك فربما أمل يجىء لهذا الغريق ، فهى لا تفقد الأمل وتحاول ، ولو كفراشة الضوء ، لتتقوّت طعام الحب والحياة

هذا ، وعلاوة على الخوف والقلق ، نراها تنتابها حيرة ميتافيزيقية ، أو حيرة مجتمعية حياتية ، فالكل يذهب ويروح ، وهى ساكنة تنظر بصمت وتتأمل تلك المتواليات ، وفى قصيدتها غربة تتجلى تلك الحيرة تقول :

تعارك يومك … جماعات ..

جماعات

هؤلاء يأتون …وهؤلاء يرحلون

الاجابة لسائل …

والسؤال يقال …من جاهل

هنا حارة وهناك شارع

والركن مقهى

ثم نراها فى عزلة مع انتصاف الليل حيث تعود الى الوحدة وتفكر فى تكرار الأحداث اليومية بتراتبيتها ، وروتينيتها ، وكأن الأمر أشبه بديناميكة اعتادتها كل يوم تقول :

ينتصف من الليل الكثير

تبقى وحيداً لا جديد

هذه النهاية متكررة

والموعد غدا

حيث البداية المكررة

لهذا المشهد…

هل نطلق على هذه اللحظات

غربة ؟!

انها تتسائل باستنكار عن تلك الغربة الفيزيقية الرتيبة ، فهى فى دوامات وحدتها تتصارع مع اليومى والحياتى المعتاد ، ثم تعاود – عبر حيرتها – باستنكارلتسأل : ان كانت هذه غربة أم ؟! لا

وفى قصائدها القصيرة : ( شذرات روح ) أرانى كنت سألحقها بالابيجراما ، والسيميائية ،عبر الدوال والملولات ، لولا أننى لا حظت أنها لاتعوّل الى المفارقة ،وهذا ما يخرجها من حيز الابيجراما ،الى الهايكوالشعرى اليابانى الرائع – دون قصدية منها فيما أحسب – ولكنها قصائد الهايكو التى تعيد للذات كينونتها ،مركّزة على موضوع الحدث ،وتفريغه من مضامينه الدلالية ، أى أن الهايكو – كما ألمحنا – ينحو الى التجريد ، الا أن عنصر المفارقة لايكون ظاهراً ، ولقد نجحت / أسماء القاسمى ، فى انتاجية قصائد الهايكو القصيرة – وهى نوع من الشعر اليابانى الذى يعتمد القصر والتكثيف وتجريد الصورة -وهذا ما نجحت فيه الشاعرة ، تقول فى قصيدتها القصيرة -أنا :

تائهة بين

ل..و

تعبت …

لم أجد الاجابة

انها تنحو الى ذاتها ، فتكتب حيرة الذات ، وقلقها ، وترددها ، بين أن تفعل ، أو لاتفعل ، عبر اداة الشرط ( لو) ، وهى فى حيرتها لا تجد الاجابة عن قلقها المعنوى ، لتحيله الى قلق مادى محسّ ، حيث تتعامل معه ،فتظل فى دائرة – لو – الى ما لانهاية

وفى قصيدتها ( تهجّد ) نرى العبارة أكثر تكثيفاً ، حيث اللغة السوريالية الحالمة ، تتجلى فى اعطائنا صورة ، أو بروازاً مؤطراً للذات المنسكبة بالبوح ، حيث تتوضأ بنور الندى فى الفجر وتهيم فى صوفيتها وتهجداتها تقول :

فى أردن الليل

سكبت بوحى

توضأ بنور الفجر

وسجد

فى محراب الندى

تهجداً وتبتيلا

فهنا نشاهد توضّأ البوح بالنور ، حيث حضرة الروح النورانية فى صباح جديد ،وربما أمل جديد يشرق على مساحة القلب الذى ذاق المرار والحرمان وألم الوحدة

ان الصورة التجريدية لدى أسماء القاسمى ، هى الصورة المعتمدة لديها ، وهى صورة صافية ، واضحة ، لا تحتمل التأويل ، بل نراها مجسّدة لأحلام مستحيلة ، ولغربة مجهولة ولصوفية تتماهى بهدوء ، لكن لا نلحظها ، وانما تدل عليها بعض عباراتها المغلّفة بجمال متقد

ان اللغة كذلك تفرغها / أسماء من مضامينها الاحالية ، لتركّز على الذات ، وتحيلنا اليها من أقرب طريق ، لذا جاءت لغتها مكثفة واضحة ، وملغزة ، وترميزية ، لكنها لها سحر ومذاق ونكهة مختلفة ، فأنت تتعاطف معها ، لكنها لا تستعمرك كقارىء ، بل تحيلك لتتماهى معها ، وتعبر عبر الذات الى فضاءات جديدة ، فتتماس مع شجنها ، الا أنها لا تحيلك الى سقم أو حزن ، بل هى تحكى ذاتها ،وتكتب لذاتها ، وتحيلنا الى عالمها ، دون أن تطلب منا أن نشاركها الألم الدفين والوحدة ،بل تجعلنا ننظر اليها بسموق ، اذ هى لا تستعطف ذواتنا لنتماس معها فحسب ، بل تحيلنا الى الذات بصورة مباشرة ، صورة لا تعذّب مستمعها ، وقارئها ، ولا ترهقه ، وان كانت تطلب – بصورة غير مباشرة – أن يتماس معها عبر قلقها الوجودى ، فلربما تحيلها ذاتها ، الى استشفاء روحى عبر صوفيتها ، فنشعر معها بلذة مغايرة ،ونطير معها الى أفق أكثر اشراقاً لذواتنا
انها تدعو الى التطهّر للنفس ، ،بعيداً عن آلام المجتمع فنراها تسمق وتسمو بذاتها الى عوالم أكثر امتداداً واشراقاً ، فهى تبحث عن بهجة الذات بطريقتها الخاصة ،ونحن معها فى ذلك ونشدّ على غزلها الصوفى المائز ، وصورها التجريدية المكثّفة الرائعة

ان جمالاً فيزيقياً أراه فى هذا الديوان ، يبحث عن الميتافيزيقا ليربطها بواقعنا ، ليس لنهرب من ذواتنا ، وانما لنجابه الذات لنشفى من القلق العام ، ذلك القلق الوجودى غير المبرر، وتلك الغربة التى تفضى الى تساؤلات أكثر اشراقاً ، لتعيد تجديد الروح لتنطلق عبر الجمال النفسى الى آفاق أكثر رحابة للعالم وللكون المتسع الممتد ، والحالم أيضاً

ان / أسماء صقر القاسمى فى ديوانها – شذرات من دمى – قدمت لنا وجبة الروح على مائدة الذات ، وها نحن نستقبل هديتها ، لنعيد النظر فى ذواتنا ، لنتماس مع العالم والكون والطبيعة والأشياء.

وهنا لا بد أن نقرر بأننا قد نظرنا الى الديوان بنظرة جمالية ولم نعطه حقه ،عسى أن نقدم دراسة أخرى تستنطق جماليات أكثر عمقاً ، عبر هدير مفرداتها وتعبيراتها الرائعة ، والمثيرة أيضاً.

حاتم عبدالهادى السيد
رئيس بيت الشعر الإفريقي-الآسيوي
ناقد مصرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى