المزيد

الذات والعالم والمنفى فى بريد الليل

( الرواية الحائزة على جائزة البوكر 2019م )

 

حاتم عبدالهادى السيد

أى بريد لليل هذا الذى تخبرنا بوصوله الروائية اللبنانية  هدى بركات فى روايتها : ” بريد الليل ” ، وهل يختلف عن بريد النهار ، حيث رسائل الليل تحمل الغازية : حبيب ، سر غامض ، رسالة مهمة لايريد صاحبها تبليغها الا فى الليل ، اذ النهار له عينين – كما يقولون فى الأمثال لدينا ، اذن ما حكاية بريد الليل هذا ، وما تلك الرسائل الغامضة الليلية التى قد تأتى خفبة ، وهل ثم لا انتظار حتى يجىء النهار ؟! .

انه بريد الحب ، بريد الزمان عبر المكان ، بريد الذات التى ترى العالم ،رسالة موجهة الى الانسانية الشائهة ، الى مجتمعاتنا التى تحب الليل ، وتعشقه ،اذ فيه مواجد العشاق ، واجتماعات الناس والسمر الممتد .

وفى الرواية ، تبدأ الحديث بالرسائل : عزيزتى … ،عن القرية التى محاها السّد ، عن الحب الموجود بين أهالى القرية ، وعن ركوبه القطار،السهر، الليالى الحمراء مع العاشقة المشتهاة ، باسم التمدين والحضارة ،حيث القيم الليبرالية المنفتحة ، وحيث الغرائز تفتح مساحة للعهر ،دون فضيلة للقيم ، أو للأديان ، يقول : “ألست كائناً متخضراً يحافظ على غرائزه ” .الرواية : ص10 .

هى الوحدة اذن ،التحررمن قيود الأسرة ،كراهية الماضى ، اجتراره لأحزانه ، للعاملة القاسية له من جانب الأم ، الغرفة التى استأجرها، وأحالها مرتعاً للحبية ،و للعاهرات ، وغير ذلك.

وتبدو مسيرة السرد لديها أكثر انفتاحاً ، وتحرراً ، فنجد الحديث عن الدورة الشهرية ، بشكل صادم، وكأن ذلك من مظاهر التحرر والتحضر .

ان هدى بركات ، الراوية ،تسرد تفاصيل السيرة الذاتية ، وهى فى القطار ، حيث تنتقل الرسالة من الـ هو، الى الـ هى ، وتلك الثنائية قد تشتت القارىء الذى يعنيه التتابع الهارمونى التسلسلى للأحداث ، لكنها أرادت ذلك ، ولنا أن نوافقها حرية الكتابة ، لكننا نشير الى خلط قد يداهم القارىء ، دون تمهيد لذلك ، وهذه أولى نقائص الرواية ، وليست مزيّاتها – فيما أحسب –التلقى يجب أن يكون مسايراً لهارمونى السرد ن دون ازاحة فجائية، وتحول لوجهة السرد فهو يحكى ، فتتحول الحكاية اليها ، وقد كانت تحتاج الى تمهيد أولى للقارىء ، حتى لو فى المقدمة ، أو كان لها أن تحدث ، عبر الالتفات ، والازاحة ذلك ، وتمهد لقارئها الطريق المعبدة كى يتواصل مع مسيرة السرد الذى أمامه ، لا فى مخيلتها ، كما فعلت ، فرأينا انتقال الحديث عن الابنة المشردة التى أرسلوها الى التعليم ، ولم يسألوا عنها فقط ، الاحين ماتت الأم . اتصلوا ليخبروها ،وهى قالت : البقية فى حياتكم ، ومعنى ذلك أنها فقدت الأسرية تماماً ، نزعة حب الأم ،وأصبحت وحيدة مشردة ، أو متحضرة ، ربما !! . حتى ان جاء الحديث لدى السارد على لسانه فى الرسالة ، الا أن هناك ضبابية تشوب مسيرة السرد منذ البداية ، وهذا الأمر والخلط فى الأسلوب دون تمهيدية يحدث اشكاليات لدى القارىء المتذوق ، والناقد أيضاً.

ان مفردة القطار تستدعى لدينا غربة ما ، هروباً ، انسحاباً ، ففعل البعاد موجع ، حتى لو كان سفراً عادياً ، فا بالك بمن تسافر لا لتتعلم فحسب ، بل لتهرب من عدم الاهتمام ، ممن قسوة الأم ، فهى تهرب من المكان ، لتضيع فى العالم الآتى الغريب .

انها رواية الروح ، الجسد ، عبر الرسائل التى تشرح أدق تفاصيل المعاشرة الجنسية ، دون سرد فنى كذلك ، ولكن يبدو أنه التحضر الذى لا نعرفه ، والقيم الجديدة على مجتمعاتنا ، فأنا لا أرفض الجنس – بالطبع – فى الرواية ، ولكن هذا التابو ، يجب أن تتم معالجته بفنية أكثر سموقاً ، فهو ليس عيباً ، ولكنه هنا سرد مبتذل ، يخدش الحياء ، والذوق العام ، وان كان يخاطب الروح لكاتبة فى تصوير حالة الرجل الذى ينظر لصاحب الرسائل / الحبي الحكاء ، والذى ظنه أحد المثليين الذين يتابعونه من نافذة الغرفة المواجهة ، ية أنه يراقبه ممن قبل موظف الجوازات الذى رفض اعطائه أوراق ثبوتية لتجديد الاقامة فى ذلك النفى الذى لجأ له هروباً ممن قهر المجتمعات والحكام بعد الثورة ، فى الدول العربية ، ومع ذلك فقد كانت هناك الكثير من المشاهد الايروتيكية الباذخة ، والتى تتقبلها الذائقة كالحديث عن الغرام ،وشهوة المضاجعة لديه ، بينا كانت تبحث عن خدمة ما بعد البيع من جانبها .

انها الغرفة / العالم ، عالمه ، نزواته معها ، قلقه ، غامراته النسائية المتكررة ، عبر الرسائل التى تحكى بصراحة ،وانفتاح وتحررية السرد ، الرسالة ، الاسترجاع الداخلى ، الاستبطان ، تعرية للذات ، للجسد ، للسلوك غير السوى واللهفة لأفخاذ النساء وأثدائهن . فهو كما يعلن عاهر، ومفلس ، يريد أن يقضى الحياة هكذا ، باسم الحرية والتحضر. فهو فقد الهوية ، منفى بدون أوراق اقامة ، هائم فى العالم ، تائه ، شائه ، مريض ، يبحث عن نزوات افتراضية ، أو حقيقية ، لكنه فى الأصل لايعرف ماذا يريد ، له قيمه الخاصة ، وفلسفته الذاتية الغريبة ، يبرر سلوكياته غير المألوفة ، ويحيلها الى الجينوم البشرى ، جيناته الخاصة ، ومعركته الكبرى مع الذات والعالم ، يقول : ” أن أغار عليك لا يعنى أنى مغرم بك ، انها مسألة بين الذكور ، تنافس على حجم الخصيتين ، بمعزل عن موقع الأنثى الواقفة فى المساحة المشتركة لأى من الذكريين ،هذه فى جيناتى . ولا أريد فى معركتى مع العالم أجمع أن أحارب جيناتى أيضاً … لماذا انا فى معركة مع العالم أجمع ؟ لا أعرف اسألى العالم . ربما لاحساسى بأنى فى معركة ولاأملك أى سلاح . وكلما خرجت عدت مليئاً بالكمدات ، لست مسالماً ، لكنى لم أجد مصدراً يسلّمنى سلاحاً ، والأدهى أنى ضعيف البنية ،ولا أجرؤ على ضرب أحد . اذن ، أنا ضعيف ،وجبان ،ويرتد غضبى علىّ مضاعفاً “. ( الرواية : ص22 ) .

انها مأزومية الذات تجاه نفسها والعالم ، تجاه الآخر الغريب ، الذى يفترض أنه يتربص به ، كالرجل الذى فى الشباك المقابل ، وهو ركون واستسلام للانهزامية ،لهذه الشخصية المنزوية ، الخائفة ، القلقة طوال الوقت ، والبائسة التى تتشبث بالأنثى كمعادل تعويضى عن النقص ، عن القهر النفسى للتربية ، عن النظر الى الكون والعالم من منظور المتربص الذى يريد تلبّسه ، أو نفيه ،ومحوه ، أو الدخول معه فى معركة ، حتى لو كانت مع المجهول / الأشباح / الهلاوس ، والقلق الذى ينتابه ، ويعيشه طوال الوقت / الهاجس المجهول الذى فى الأفق ينتظره فى كل مكان يذهب اليه ، لذا فهو لايريد أن بخرج من الحجرة الى الشارع ، كى لا يصاب بالكدمات / الهزائم الصغيرة ،التى تضاف الى هزائمه وانكساراته المتكررة .

ويجىء الحديث عن المنفى من خلال عرضها / عرضه ،عبر الرسائل ، ومعاناته فى البحث عن عمل، فيجد مبتغاه لدى العسكرى الانقلابى ، الذى فتح جريدة ، ليعلم الناس أصول الديمقراطية ، واشترى قصراً فى المنفى ، يجمع فيه الناس بالقوة ، ليهنئهم بأنهم تركوا أوطانهم ،واختاروا المنفى ، لأنهم – كما وصفهم – طلاّب حرية ، قد تركوا أوطانهم لأنهم لم يحتملوا القمع والتخلف فى بلدانهم العربية .

حتى المهجر له شروط ، فالمال يسد الأفواه ، ويجدد الاقامات المنتهية ،انه يعلن دوماً : أنا المفلس ، انها المهانة ، فالمال هو عصب الحياة هناك ، تجديد الاقامة ، دفع المصاريف الحياتية ، لذا لم يكن لديه غير طريقين : ” الكوكايين ، أو الاسلاميين ، ومع ميل بالطبع الى الأول الا أنهم عدّوه معارضاً ،بعد أن ترجم مقالاً ، من أجل مال زهيد ، فلما ذهب للمعارضين عدّوه مشبوهاً ، أو منتفعاً ، يجب مراقبته . وعبر الالتفات واسهابات السرد عن المعارضة ، نراه يغير وجهة السرد عنه اليها ، فهو يبث لها شكاواه عبر الرسالة الطويلة / الرواية ، يبث لذاته أولاً ،وتستهويه لعبة السرد ومغامرة المتعة فى الحكى ، وعبر الالتفات ، والازاحة نراه يغير الحديث عن وضعه المزرى، وينتقل اليها فى براعة : ( عدا ذلك أنا متخلف وعدائى وعنيف ، وفوق ذلك مدمن ، وأول خيالاتى الجنسية تبدأ بأن أضعك بين ذراعى رجل آخر . تكونبن عارية تاماً ، تحته أو فوقه ، ربما لأعالج غيرتى . يعجبنى أن أراك تشبهين النساء ، ولك جسم معافى ، ينضح رغبة ، متنقلاً بين أيد كثيرة ،وأفواه تجعل لحمك يضىء ويتفتح “. ( الرواية : 27-28 ).

انه هوس الكوكايين ، أو الهروب السرى الى الذات ، السريرية المرضية ، النكوص ، التنفيس النفسى والروحى لرجل يهذى ، يتذكر ، يكتب ، يتخيل حياة بكامل تفاصيلها على الورق ، عن عاهرة ، محبوبة متخيلة ، كانت ، وربما رحلت ، لكنها على الأقل ليست معه ، يكتب لا ليستجديها لتجىء ، فلربما لايريدها أيضاً ، فقط التسرية عن الذات بالكتابة ، العلاج بالسرد والحكى ، كنوع من التطهّر، الرجوع الى اليقين ، أو البرهان للذات الهائمة فى مجهولية العالم ، وآلامه الزاعقة ، والمنافي الكثيرة ، وغربته الممتدة أيضاً ، مما حداه أن يقول بصراحة ، تقريرية : ” والله عبث ، أكثر أيامى ، تنقضى عبثاً فى عبث ( الرواية :ص28 ).

انه يخلط بين الوهم والواقع ، يتخيل رجلاً يراقبه ،ويتشكك بأنه مثلىّ ، ثم يكتشف أنه رجل مخابرات أرسله الذى لم يجدد له الجنسية لشكّه فيه ، يالخيالات الظنون ، وأوهام السوق ، والعربة ، على حد قول الفلاسفة .

كما نلح ثنائية السرد السيميائى ، السيمولوجى ، لتلك الرسالة / البوح ، فمرة للرجل ، وصوت آخر للأنثى التى يناجيها ، ولعل اختلاط هذه الثنائية فى السرد يربك القارىء العادى ، الا أن المتتبع لهارمونى السرد ، بعين ناقدة ، سيلمح هذه الانسيابية والتحول بين الصوتين ، وكأنهما صوت واحد ، أو أن هناك تلبسّ ، ومخاتلة ، أرادت الكاتبة بها العبث فى جسد السرد ، مستخدمة الواقعية السحرية لسيميائية السرد المخاتل ، الباذخ ، الذى يخاطب الروح والجسد معاً ، وربما بفعل الكوكايين ،أرادت أن تنقلنا عبر غواية السرد الى الـ هى ، والـ هو ، عبر مساجلات السرد المتداخلة ، لتحكى حكايتين منفصلتين فى آن ، وكأنها ترتكز الى ” مابعد حداثية المعنى” ، لتحيلنا الى تشاركية للقارىء، عبر ثنائية السرد : صوت المرأة والرجل معاً ، فى آن ، نافية الزمكانية ، أو الفروق السردية واللغوية والجمالية أيضاً . أو لعلها أرادت الايهام بالسرد من جانب الراوى العليم / البطل /كاتب الرسالة ، لتحيلنا الى تلك الثنائية بفعل تعاطى الكوكايين ،الذى يخدّر العقل فيخلط بين حديثه كسارد ، وبين مسرودية حكايتها ، أو أنه التخييل عبر حواريات تخيّليّة أيضاً ، لعالم افتراضى يعيشه ، يتغيّاه ، أو ربما أراده كذلك ، وهذا يستدعينا أن نسأل : “عمن سرق المشار اليه فى النص ومسرودياته ” -على حد قول رولان بارت- ، أيضاً !! .

انها تستدعى السرد فى صورة دوائر متتالية ، وتبدو ثنائية الصوات دليلاً على حوارية متبدّاة ، تكمل سيرة السرد عبر تلك الحوارية ،التى يسردانها معاً ، لنظن الرواية عبر المخاتلة ، أنها رواية رسائل ، أو أنها سيرة ذاتية فحسب ، بل هى مسرودية لأحداث الذات عبر التخييل ،داخل غرفة السرد الكونية ، التى استأجرها ، فى بناية رخيصة ليصطاد العاهرات ، فاذا به يصطاد ذاته ،من وراء تلك النافذة ، أو أنها كمسرح كسرت الحائط الرابع فيه ،ودخلت الى الجوقة لترى الأشياء والمجتمع ،فتهرب من جديد لنشاهدها / نشاهده ،فى الليل ، من خلف قناع ، من خلف زجاج النافذة ، أو من خلف زجاج نظارته / ذاته ، التى تؤطر للوحدة ،القلق ،الغربة والمنفى ، وتصنع عالماً للذات يعبر فيه السارد /الراوى ،عبر مسيرة الحكى ، وبفعل الكوكايين ، أو الهروب النفسى ، الى عالم أكثر اشراقاً ، ومتعة ، أفق يتغياه ، ويتقصّده ، ويستمرأ العيش داخله ، رغم العذاب والقهر . فهو الوجع الشهى للعالم الذى يريد العبور اليه ،عبر منافى الذات المرعوبة ، التى تتشبث بالشجاعة ، رغم انكساراتها الهائلة ، وهزائمها الافتراضية كذلك ، والحقيقية أيضاً .

وبداية “ص :49 ” ، نجد رسالة الى الأم الحبيبة ، هل التى ماتت ودشنت صورتها فى ذاكرتها ، وأزاحة حياتها السابقة ، ، أ م هو الذى يكتب الى أمه التى كذلك كانت ، فيما يبدو ؟! .

انها مذكرات شاب لا أهل له ، أو ربما قال ذلك ، عندما استلم الوظيفة : ” يعذب الناس ويطيع مرءوسيه ، هو عصا السلطة التى ثار عليها الشعب ففر من أمامهم ،قبل أن يزهقوا روحه لظلمه لهم – كا يروى لأمه معاناته فى المنفى وملاحقات رجال الشرطة ،واتهاماتهم له بأنه يعمل لصالح مخابرات بلاده ،وغير ذلك ، من التهم التى تلاحق الأجانب ، من أصحاب الاقامات غير الشرعية ، أو اللاجئين السياسيين الهاربين من ظلم الأوطان ، الى سجون العالم الرهيبة كذلك .

انه يحكى لأمه ، مدى ما وصلت اليه حاله ، تعطيه امرأة سترة ليتدثر من البرد ، وذلك الشحاذ الألبانى يفرد له الحشيش ويتبادلا الجلوس والأحاديث ، انها حياة غريبة قلقةٍ ، مطارد من الشرطة لعدم وجود أوراق ثبوتية لديه ، لذا لا غرو أن تستضيفه السيدة فى منزلها ، يساعدها فى تنظيف المنزل ، وكأنها الرسولة ،التى أرسلت اليه ،لتنتشله فى هذا المنفى فى المهجر ،والذى – كما يتذكرأنه شتم فيها الرئيس مرة ، فاتهموه بأنه شيوعى ، أو اسلامى ، أو اخوانجى، يوم أن كان يعيش فى الوطن العربى هناك ، لذا خرج الى المنفى كنوع من الهروب ، الخوف ، العجز عن مواجهة العالم والمجتمع .

، لقد أسقط فى يده اذن ، اغتصبته العجوز التى عمل عندها بقوة ، لم يعرف غرام العجائز ، من قبل ،وقوتهن فى الفراش ، هكذا تحدّرت به الدنيا ،فكتب الرسائل ، للتنفيس ، للبوح .انه أدب المذكرات ، للاجىء ، مشرّد فى العالم ، بدون أوراق يبحث عن لاشىء ، فقط يحب الحياة ، ويتمنى العودة الى الوطن ،الذى أبعد عنه قسراً ـ أو ابتعد عنه نتيجة ماحدث هناك.

انه اذن هناك ،فى منافى العالم يتعذب ، كما عذب الناس من قبل ، تريده المرأة العجوز لليلة ،وليال للحب ممتدة ، يقتلها ، يندم ، لكن لافرق عنده ، فكم عذّب وقتل ، وهى أفعال اقتضتها طبيعة عمله – كما يبرر على طريقته الغريبة دوماً – أما أفعاله التى سيحاسبة الرب عليها – كا يقول – فهى الأجدر، بشعوره بالقلق، والخوف من الله ، يقول : المتعة ليست خياراً ، والانتشاء بالقوة والبأس ،واحكام السيطرة على البشر، ليست من الزوائد . أن ترى رجلاً كان ضابطاً أو أستاذاً جامعياً ـ أو قاضياً يقبل رجليك باكياً ، ليس لزوم ما لا يلزم ، فالدم يصعد ويفور فى القلب مثقلاً بالمخدرات الطبيعية ، الشبيهة ،من دون شك ، بتلك التى تبعث لذة المدمنين ،فيعودون اليها مكبّلى الأيدى . أن تقلّب الأدوار والمصائر بيديك الاثنتين، يعنى أنك تصبح القدر نفسه ، ذلك الذى كنت تصلى له ،كى يرأف بك … أنا لم أكن فى مثل هذا الوضع ، مصلحتى كانت فى الحفاظ على تلك المرأة ، ملجئى الوحيد ، لا مصلحة لى فى قتلها . ( الرواية : ص 70) .

ثم نرى الكاتبة / الراوية ، تنتقل بخطاب رسائلها الى أخيها الحبيب ، لتحكى له عن ظلم أمها ،وظلمه هو كذلك لها ، بعد اجبارها على الزواج ، ثم تطليقها ، بعد أن أنجبت ،وطلبات الأم المستمرة للمال لتربية ابنتها ، وقد عملت خادمة فى االبيوت ، ثم مومساً ، شرموطة وعاهرة ، كما تعلن ذلك .

انها اعترافات المرأة التى قست عليها أمها ، فقتلتها ، كما قتل السارد المرأة العجوز التى آوته ، وتقول- مبررة مثله ،على طريقة حبيبها، كذلك – هى ارادة القدر الالهية ، وذلك الرجل . أى انها حكايات ممتدة ترويها فى شكل رسائل ،لتحكى عن عالمها ، عالمنا ، مذكرات امرأة قست عليها الأيام ، ورجل عاند الدنيا فعاندته الأيام ، أى كلاهما فى الحاليين متشابهان فى الظلم والمرار والوحدة والفقد ، فى التشرد والعيش على الحافة فى شوارع العالم ،والطرقات ، يتوزعهم الخوف والمرض ، ويتدثران بالحب ،بالجسد ، ليشعران بدفء الحياة . حتى ابنتها التى زوجتها أمها رغماً عنها ، لعربى من أجل المال وعاشت مثلها تخدم ، وكأن سلسلة الهزائم وتكرار التجارب ، تمتد الى الأبناء كذلك ، نتيجة لجشع الأم ، وحبها للمال مع عدم اعتبار لأمومة ، أو عاطفة ، فقد باعتها هى من قبل، وتركتها فى عراء العالم ،وحيدة مريضة منهكة ، يتجاذبها الذئاب ،الذين يجيدون نهش الأجساد الهزيلة الضائعة ، الضالة ،والفقيرة كذلك .

ثم تتوالى الرسائل الى الأب، وكأنه هنا يتذكر لا يرسل رسائل ، فحسب – ، ذلك الابن الذى كان يتحاشى الكلام معه خوفاً ورهبة ، الا انه هنا جاهر بالكلام ، دون خوف ، أو رادع ، لأنه هو الذى ترك له هذه المساحة الخالية ، تركها ولم يسأل عنه ،وكان يتمنى – كما يذكر – أن يتدفأ فى روح والده ،ويحكى له ، كالشباب ،عما يؤرقه ، لكن هذا لم يحدث قط ، فقد طرده الوالد من المنزل بسبب سيجارة حشيش ،فكان أن عاش المرار ، هو يعاتبه ، يكتب اليه ، يستدعيه ، يتذكره ، يريد أن يتطهر ، ويحنّ الى حضنه الذى فقده منذ أن غادر البيت الى الأبد .

انها رسائل الحزن ، تنحو الى الحنان ، تريد الدفء ، التسامح ، العفو ، الشعور بالندم ، الانتقام ، بث الشكوى والأحزان مما لاقاه / لاقته / معاً ، من أهوال الحياة وشظفها وعنتها ، ومن الغربة والترحال عبر شوارع العالم ، ونواصى الحياة القلقة المفزعة .

انها رواية الذات التى تعرى الجسد والروح ،لتطلعنا الى صورتين تشابهتين مختلفتين لحياة ولد وفتاة ، حواء وآدم ومسيرتهما الكونية عبر الحياة ، وما فعل بهما الشيطان ، ونزوعات النفس ، والأهوال ، الا أن التوق للحب ، للتطهر ، للصراخ ، بأنهما لم يقصدا ايذاء أحد ، وأن ما فعلوه كان خطايا غير مقصودة ، أو أخطاء وضعتها الأقدار فى طريقهما ، فسارا فى طريق الاختبار المرير عبر الكون والعالم والحياة .

وقد قسمت الرواية الى أقسام : مقدمة تثل العتبة النصية للولوج الى عالم الرواية عبر الفتاة والفتى ، القسم الأول : خلف النافذة ، والذى يمثل ثنائيات الصوت السردى ، الذكورى ، الأنثوى ، القسم الثانى : فى المطار : والذى يمدّد مسرودية الأحداث وتشابكها عبر الرسائل الى : الأب والأخ ،الأم ، ثم نراها تنهى روايتها بالخاتمة : ” موت البوسطجى ” ، وكأنها تريد أن توهمنا بأنها رسائل حقيقية حملها البوسطجى ،عبر بريد الليل الى من يطلبها – فيما بعد – من أصحابها ، بعد أن شردتهم الحرب ، وهدمت منازلهم ، وهوياتهم ، وكأنها رسائل مؤجلة ، لم تصل بعد الى أصحابها ، فهى رسائل السرد ، البوح الذاتى / ذاتها / ذاته / المجهول / الراوى الغريب التائه مع محبوبته التى غابت عنه كذلك ، كما غاب والده / والدتها أخوها / الوطن ،الحياة التى تنتظرهما فى الخارج لترد على رسائلهما المفجعة ، وربما السعيدة أحياناً !! .

انها تروى حياتنا ، واقعنا ،عبر روايتها ، تعكس كل ما يعترينا ، فلا القاتل قاتلاً ، ولا المومس عاهرة ، بل هى اسقاطات تحيلنا الكاتبة اليها لنرى الواقع عبرالرسائل ، السيرة الذاتية ، البوح النفسى ، وكانت الاستفاقة من هذا السرد على صوت ساعى البريد ، وداعش ،عبر المكان ، داعش- التى أقحمتها فى نهاية الأ حداث ، وهو اقحام غيرمبرر ، ولكنها اشارية الى الآنى / الزمنية ، الواقع الآن ، أى أنها تريد أن تخبرنا بانها رسائل الوقت الذى نحياه ، الآن – انها الرسائل التى تتقاطع مع عالمنا ، والتى تستعين بنا ، للنظر بشفقة الى هؤلاء المهجّريين ، المنفيّين فى الغربة ، المنكسرين عبر ذواتهم المأزومة ، والغرباء داخل أوطانهم ، وذواتهم ، يرفلون فى الظلم ، ويتجرعون كأس الهزائم المتكررة ،والطغيان ،والحرمان ، فى عالم طغت فيه المادة والخوف الذى جسّدته جماعة ” داعش ” ، كرمزية اشارية ، مثيولوجية ، للظلم والوحشية عبر عالمنا الذى افتقد الى الأمن ،وساد فيه القتل والضياع والتشرد ، عبر ردهات الواقع المرير ، والحياة التى تأخذنا الى دروب لم نفكر يوماً أن نسلكها ، لكن حرص ساعى البريد على تلك الخطابات جعلته يفهرسها ، فلربما سئل عليها أحدهم ، يوماً ما ، بعد أن غيبت الحرب العناوين ،وتهدمت البيوت ، وشاهت المعالم ، فلم نعد ندرى عن الأماكن والأوطان شيئاً ، فهى الغربة فى المكان ، غربة الذات عبر الغرفة ، عبر الوطن ، والكون، والعالم ، والحياة .

ان رواية : بريد الليل ، لهدى بركات تعكس الذات عبر منافى العالم ، وتعكس سيرة العالم داخل الذات ، تحكى من الغرفة أحزان المجتمع ، وتتأمل عبر التطواف ممسيرة الذات المأزومة عبر هذا العالم المتد ، وهى رواية ذاتية ، سيرة ، بوح ، افضاء روحى ، جمالى ، لغوى ، للذات الكونية ، الميتافيزيقية عبر الواقع السيميائى / التخييلى/ الحقيقى م الحالم ، والمتشابك والممتد أيضاً .

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى