فنون و ادب

ابن حمديس: شاعر الإبداع والحسرة بين صقلية والأندلس

عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي، المعروف بأبي محمد، هو أحد أبرز شعراء العصر الأندلسي. وُلد في جزيرة صقلية عام 1053م، حيث تعلم ونشأ في بيئة علمية وثقافية غنية. رغم ارتباطه بصقلية منذ طفولته، رحل عنها إلى الأندلس عام 471هـ بحثًا عن الحظوة في بلاط المعتمد بن عباد، فوجد فيه الدعم الكبير والتقدير لشعره، مما أثمر عن علاقة قوية بينهما.

من هو ابن حمديس: 

ابن حمديس لم يكن شاعرًا عاديًا؛ بل كان مبدعًا في فنون الشعر وأغراضه المختلفة، حتى قال عنه ابن بسام: “هو شاعر يقرطس أغراض المعاني البديعة، ويعبر عنها بالألفاظ النفيسة”. تميزت قصائده بالتصوير الفني المتقن، والإبداع في التشبيه، والغوص في معاني الكلمات، كما يظهر في وصفه لنهر من خلال قصيدته الشهيرة: “ومطرد الأجزاء تصقل متنه”. أبدع في وصف المياه التي تجري وتشق طريقها بين الحصى، جاعلًا من النهر كائنًا حيًا يشكو آلامه بخريره.

لم يقتصر شعر ابن حمديس على الوصف، بل تناول كذلك موضوعات الحب والشوق والفراق. في إحدى قصائده العاطفية، يتحدث عن قبلة من الحبيب كانت له كطلب عزيز على الدهر، ويصفها بكلمات مؤثرة: “بت منها مستعيدًا قبلًا كن لي منها على الدهر اقتراح”. يظهر تأثره بالشعراء الكبار كالبحتري والمتنبي، حيث استعار منهم بعض المعاني وأعاد صياغتها بإبداع جديد.

بعد أن أمضى سنوات من المجد والشهرة في بلاط المعتمد بن عباد، انتقل ابن حمديس إلى إفريقية عام 516هـ، حيث أقام هناك حتى توفي في جزيرة ميورقة عام 1133م عن عمر يناهز الثمانين عامًا، بعد أن فقد بصره. على الرغم من محنته الأخيرة، استمر ابن حمديس في الإبداع الشعري، وكانت قصيدته الميمية التي تحدث فيها عن الشيب والعصا دليلًا على حكمته وعمق تجربته الحياتية.

من أبرز القصائد التي تُذكر لابن حمديس هي تلك التي عبر فيها عن شوقه العميق لمسقط رأسه، جزيرة صقلية. فقد كتب قصيدة مؤثرة تعبر عن الحنين واللوعة، حيث يقول: “ذكرت صقلية والأسى يجدد للنفس تذكارها، فإن كنت أخرجت من جنةٍ فإني أحدث أخبارها”. تعبر هذه الأبيات عن ارتباطه العميق بجزيرته التي لم تفارق قلبه رغم رحيله عنها.

كما تميز ابن حمديس بالوفاء والولاء لأصدقائه ومَن أحسنوا إليه. بعد أن وقع المعتمد بن عباد في الأسر وحُبس في أغمات، سمع ابن حمديس أبياتًا نظمها المعتمد في محبسه، فأجابه بقصيدة مؤثرة مليئة بالتعاطف والشجاعة، قال فيها: “أتيأس من يوم يناقض أمسه، وشهب الدراري في البروج تدور”.

لقد ترك ابن حمديس إرثًا شعريًا كبيرًا، فقد ضم ديوانه العديد من القصائد التي امتازت بالجودة والإبداع، وكانت مخطوطة ديوانه محفوظة في مكتبة الفاتيكان. كما ورد ذكره في “وفيات الأعيان” لابن خلكان الذي أثنى على شعره وأسلوبه البديع.

على الرغم من أن الفرنجة انتزعوا صقلية من المسلمين في عام 464هـ، إلا أن ابن حمديس ظل متعلقًا بذكرياتها وبأهلها، ولم ينسَ يومًا جمال تلك الجزيرة التي شكلت بدايات حياته. توفي ابن حمديس بجزيرة ميورقة ودفن بجوار الشاعر المشهور ابن اللبانة، ليسدل الستار على حياة شاعر ترك أثرًا خالدًا في الأدب الأندلسي.

رحم الله ابن حمديس الذي عاش بين الحنين والابتكار، وكتب أشعاره بروح العاشق الغريب، بين جمال الطبيعة ومرارة الفراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى