رابعة العدوية: صوت المحبة الإلهية في ظلام الليل
في ظلام الليل، كانت رابعة العدوية تناجي الله بتضرع قائلة: يا إلهي، لقد أنارت النجوم ونامت العيون، وأغلقت الملوك أبوابها، وها أنا أقف بين يديك. إلهي، ما سمعت صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوى ريح ولا قعقعة رعد إلا وجدت كل ذلك شاهداً بوحدانيتك، ودليلاً على أنه لا شيء يماثلك. يا سيدي، بك يتقرب المتقربون في الخلوات، ولعظمتك تسبح الحيتان في البحار العميقة، ولجلال قدسك تتلاطم الأمواج. أنت الذي يسبح لك سواد الليل وضوء النهار والبحر الواسع والقمر البهي والنجم المضيء، وكل شيء لديك بمقدار لأنك الله العلي القهار.
من هي رابعة العدوية
وذات مرة، تحدثت رابعة مع والدها قائلة: يا أبت، لن أسمح لك أن تطعمني من حرام. فسألها: وماذا إن لم أجد إلا الحرام؟ فقالت: أن نصبر على الجوع في الدنيا أفضل من أن نصبر على النار في الآخرة.
رابعة بنت إسماعيل العدوية وُلدت في البصرة لعائلة فقيرة صالحة، وتركت يتيمة مع ثلاث شقيقات لمواجهة صعوبات الحياة. ومع حلول الجفاف، هاجرت شقيقاتها، لكن رابعة رفضت الرحيل، فتركوها وحيدة. عثر عليها اللصوص وباعوها لتاجر ثري حيث عانت من ذل العبودية. وحين علم التاجر أنها تصلي الليل كله، ذهب ليتأكد وسمعها تدعو الله بقولها: يا إلهي، أنت تعلم أن قلبي يتوق لطاعتك، وعيني تضيء بخدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت عن مناجاتك لحظة. فرقّ لها التاجر وأطلق سراحها.
بعد ذلك، كرست رابعة حياتها للزهد والعبادة وقراءة القرآن، وظلت على هذا الحال طوال حياتها. تقدم لها تاجر يرغب في الزواج منها قائلاً: إنني أربح ثمانين ألف درهم في اليوم، وأرغب في الزواج منك. ردت عليه: إن الزهد في الدنيا يجلب راحة القلب والبدن، بينما الرغبة فيها تورث الهم والحزن. لذا، صُم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يهمني أن يمنحني الله أضعاف ما منحك، فيشغلني بذلك عنه ولو للحظة.
وعندما جاءها رجل ليمنحها أربعين دينارًا للمساعدة في حاجاتها، بكت ورفعت رأسها إلى السماء قائلة: الله يعلم أنني أخجل أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف لي أن أقبلها ممن لا يملكها؟ ألا تراني على الإسلام؟ إنه العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر معه. فانصرف الرجل وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام. فأجابته: إنما أنت أيام معدودة، فإذا مضى يوم، ذهب جزء منك، وما إن ينتهي البعض حتى يذهب الكل، فاعمل ما دمت تعلم.
كانت رابعة العدوية تصلي الليل كله، وعندما يطلع الفجر، تأخذ قسطاً قليلاً من الراحة ثم تستيقظ فزعة، قائلة لنفسها: كم ستظلين نائمة؟ يوشك أن تأتي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم القيامة. ثم تبكي في سجدتها حتى ترى موضع سجودها مبللاً بالدموع.
وذات يوم، طلب منها رجل الدعاء له فقالت: من أنا لأدعو لك؟ أطع الله وادعه فإنه يستجيب للمضطرين. وقالت لها امرأة: أحبك في الله، فردت: فلا تعصي وأطيعي من أحببتني فيه. وسألتها المرأة: هل ترين من تعبدينه؟ فقالت: لو لم أره ما عبدته.
عاشت رابعة حتى بلغت الثمانين، وكانت تبدو ضعيفة وهزيلة من شدة زهدها في الحياة. كانت تحضر أكفانها أمامها، وكلما ذُكر الموت، ترتعد وتتأثر بشدة. وعندما اقتربت وفاتها، طلبت من خادمتها عبدة أن لا تخبر أحداً بوفاتها، وأوصتها أن تكفنها في جبتها وخمارها الصوفي ليكتمل لها الثواب يوم القيامة.
توفيت رابعة في العام 135 هـ وعمرها ثمانون عامًا، ودُفنت قرب القدس. ومن أقوالها المأثورة: “أستغفر الله العظيم من قلة صدقي في قولي، كلوا خبز الدنيا واعملوا للآخرة، محب الله لا يسكن أنينه حتى يسكن في جنة محبوبه”. كما كانت توصي الناس بكتمان حسناتهم كما يكتمون سيئاتهم، مؤكدة على أهمية الإخلاص والنية الطيبة في عبادة الله.