ديبلوماسية عمان : أن تفتح أبواب العقل …!
بيروت ـ نبيه البرجي
قبل رحيله بأشهر قليلة , قال لي وزير الخارجية اللبنانية السابق جان عبيد , كمثال في الرقي السياسي , والأخلاقي , والثقافي , “هذا النوع من الديبلوماسية يفتح أبواب العقل في العالم العربي الذي هو الآن , وربما من عقود , في حال من التيه بتأثير التقاطع بين لعبة الأمم ولعبة الأسواق . لن أقول ان التاريخ عندنا في أزمة , لكنني أخشى القول ان الزمن عندنا في أزمة …” .
سألته “أمّا وقد أحدثت الديبلوماسية العمانية ثغرة في أكثر من جدار , لماذا لم تقترب من جدارنا الذي يكاد أن ينهار , وتنهار معه الدولة ؟” .
أجاب “اشقاؤنا في عمان هم أهل الشفافية الحصافة . يعلمون أن ثمة جهات عربية أخرى تضطلع , عادة , بدور ديبلوماسي لتفكيك أزماتنا التي يبدو أنها تتناسل , على وقع كل الأزمات في المنطقة , حتى لكأن الأزمات , بالرغم من كل تداعياتها الكارثية ضرورة وجودية , في حين تهدد وجودنا بالزوال” .
أضاف “حين كنت وزيراً , اقترحت أمام عدد من نظرائي العرب , تشكيل هيئة حكماء , على شكل مؤسسة , وتتبنى في أدائها , رؤية عمان (الرؤية الفلسفية) , لفض النزاعات بدل أن نتركها تتراكم , وتتفاعل , على نحو دراماتيكي” .
اذاً , اصابع حريرية لفتح الأبواب الحديدية (الأبواب الموصدة باحكام) , وهي كثيرة . آخرها دور عمان في احداث ثغرة في الجدار الذي كما لو أنه جدار النار في الميثولوجيات القديمة , بين ضفتي الخليج . من هذه الثغرة دخل التنين , في ظل ضبابية , أو فوضى , دولية , يمكن أن تكون لها انعكاساتها الجيوسياسية , والجيوستراتيجية , الخطيرة على المنطقة …
وكان افريل هاريمان ـ الديبوماسي الشهير الذي كان مستشاراً للرئيس فرنكلين روزفلت أثناء مؤتمر يالطا (شباط / فبراير 1945) , ثم سفيراً لدى الاتحاد السوفياتي في ذروة الحرب الباردة ـ من دعاة “ديبلوماسية الظل” التي لا تعني , بأي حال “ديبلوماسية الدهاليز” .
هاريمان أخذ عينات من التاريخ (الأوروبي بوجه عام) , ودعا الى تدريسها في الكليات الجامعية المتخصصة . كصحافي , وكباحث , لبناني , أرى ضرورة تدريس المنهج أو المنهجية العمانية في الرؤية , وفي الأداء , في الجامعات العربية .
الديبلوماسي الأميركي اياه انتقد, بشدة , “ديبلوماسية الضوضاء” . سأل “أي ديبوماسية تلك حين تسقط في جاذبية الضوء , وفي جاذبية الضوضاء ؟” , ليرى فيها الوجه الاخر لقرع الطبول أو … لقرع الطناجر !
زبغنيو بريجنسكي , الباحث المستقبلي , ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر , كان على خطى هاريمان . وحين أطلق هنري كيسنجر “ديبلوماسية الخطوة خطوة” , انما كان يخفي معادلة “الحقيبة والدبابة” . لتسوية أزمة ما , ينبغي اضرام النار حولها , او داخلها , للولوج ,عبرالدخان الكثيف , الى ردهة المفاوضات …
بريجنسكي استخدم عبارة “ثقافة الخيلاء” في وصفه لكيسنجر الذي اذ كان المستشار النمساوي كليمنت ميترنيخ (وكان مع الفرنسي شارل تاليران نجمي مؤتمر فيينا عام1815 ) موضوع أطروحته للدكتوراه , فقد وصفه توماس فريدمان بـ”ميترنيخ القرن العشرين” . اعترض بشدة , وقال “بل ميترنيخ كيسنجر القرن التاسع عشر” .
السعوديون والايرانيون , وكذلك الصينيون , اضافة الى عواصم عربية ودولية , أثنوا على دور السلطنة في شق الطريق أمام ذلك الاتفاق الذي لا شك أنه يضع المنطقة أمام منعطف تاريخي اذا ما أخذنا بالاعتبار أن مفاعيل الحرب في أوكرانيا لا بد أن تحدث تغييرات جوهرية ان في النظام العالمي , أو في المنظومات , أو المنظومات , الاقليمية . حرب عالمية ثالثة . حتى الساعة في اطار كلاسيكي محدد .
ما يعنينا في اتفاق بيجينغ الانعكاسات على “الحالة العربية” , من جبال مران في صعدة الى ضفاف المتوسط . اذ تبدو الأزمة في لبنان أزمة سريالية لتشابك عناصرها , وترسباتها , المحلية والخارجية , كم يأمل اللبنانيون الذين يشعرون , والأزمة تزداد تعقيداً , أنهم يقتربون أكثر فأكثر من أرصفة الجحيم , بوساطة عمانية باتجاه بلورة حل مستدام , غير قابل للانكسار أمام أي هزة داخلية كانت أم خارجية .
هذا بعدما آثر بعض الوسطاء الابتعاد “كي لا تحترق أصابعنا” . ولكن , كما عهدنا في السلطنة , أنها , من خلال أسلوب خلاق , وفاعل , في الديبلوماسية , تفتح أبواب العقل , بعدما أطلق البعض العنان للغرائز التي تتحكم بالحاضر , وبالمستقبل , اللبناني . أي حاضر ذاك , وأي مستقبل ذاك …؟
هيئة حكماء , بمواصفات وصلاحيات المؤسسة القادرة والفاعلة , هذا ما نحتاجه كعرب , على أمل أن تكون البداية من لبنان الذي تتعرض فيه الدولة كما المجتمع , للتحلل , والذي قال فيه الروائي الأميركي دوغلاس كنيدي , لدى زيارته له “هنا لا تعرف أكنت في الجنة أم في جهنم” . لتكن الجنة أيها الأشقاء في سلطنة عمان .