المدرج الروماني في عمان.. مسرح الحضارات الذي تحدّى الزمن
أسماء صبحي – يعد المدرج الروماني في العاصمة الأردنية عمّان أحد أبرز المعالم الأثرية في بلاد الشام ورمزًا حيًا لحضور الحضارة الرومانية في المنطقة. فهذا الصرح الحجري الضخم، المحفور في قلب جبل القلعة والممتد على سفحه لا يروي فقط تاريخًا عمره قرون. بل يقدم نموذجًا رائعًا لعبقرية التصميم الهندسي القديم وقدرته على الصمود رغم تغير الأزمنة وتعاقب الدول.
أصل المدرج الروماني وسبب بنائه
شيد المدرج الروماني في القرن الثاني الميلادي خلال حكم الإمبراطور أنطونيوس بيوس، وهي فترة ازدهرت فيها المدن الرومانية في المشرق العربي، حيث امتد النفوذ الروماني من بلاد الشام إلى شمال الجزيرة العربية. وكان المدرج جزءًا من مدينة فيلادلفيا —الاسم القديم لعمان— وقد بني ليكون مركزًا للاحتفالات العامة والعروض المسرحية وحفلات الموسيقى وطقوس التجمعات المدنية.
اختير موقع المدرج بعناية شديدة؛ إذ تم نحت مقاعده مباشرة في سفح الجبل. مما ساعد على خلق توازن هندسي طبيعي مكنه من تحمل أثقال آلاف الزوار. إضافة إلى ضمان رؤية واضحة وسماع ممتاز لكل من يجلس في أعلى المدرجات.
عبقرية التصميم الهندسي
يستوعب المدرج الروماني نحو ستة آلاف متفرج، وهو رقم يعكس ضخامة البناء مقارنة بمقاييس ذلك الزمن. واعتمد البناؤون على الحجر الجيري الذي تشتهر به المنطقة، وقاموا بترتيب المدرجات بشكل نصف دائري يميل نحو الساحة الأمامية التي كانت تُستخدم للعروض.
ومن أبرز الملامح الهندسية في المدرج ما يسمى بـ”الصوت الطبيعي”. وهو خاصية فريدة تجعل الصوت يصل بوضوح إلى أعلى نقطة دون استخدام أي تقنيات صوتية. ويشير خبراء الآثار إلى أن هذه الخاصية ليست مصادفة، بل نتاج دراسة دقيقة للعوامل الصوتية وزوايا الانعكاس. نما يؤكد أن الرومان كانوا سباقين في فهم علم الصوتيات.
وتضم البنية كذلك ثلاثة مستويات رئيسية: الصفوف العليا التي كانت مخصصة للعامة. والوسطى التي يجلس فيها التجار وصغار المسؤولين. والسفلى التي كانت مخصصة للنبلاء وكبار الشخصيات. ويعكس هذا التقسيم الطبقي طبيعة الحياة المدنية في العصر الروماني.
دور المدرج في الحياة الاجتماعية والثقافية
على مدار قرون، كان المدرج الروماني مركزًا رئيسيًا للنشاط الاجتماعي والثقافي في المدينة. فقد استخدم لإقامة الاحتفالات الرسمية، وعروض الممثلين، والمسابقات الموسيقية، وحتى اللقاءات السياسية التي يحضرها قادة المدينة. وكان التصميم الفسيح والمساحة الواسعة للمدرج يجعلانه مكانًا مثاليًا تجمع فيه أهالي المدينة لمتابعة الفنون والمناسبات الكبرى.
ومع مرور الزمن وتحول المنطقة إلى منطقة عربية إسلامية، تراجع استخدام المدرج تدريجيًا، لكنه لم يفقد قيمته المعمارية. وفي العصور الإسلامية، وبخاصة في العصر الأموي، استمر استخدام بعض أجزاء المدرج لخدمات عامة ولأغراض مرتبطة بسكان المنطقة.
المدرج في العصر الحديث
مع بدايات القرن العشرين، بدأت عمليات واسعة للبحث والترميم بهدف إعادة إحياء إرث المدينة الرومانية القديمة. وشملت أعمال الترميم تنظيف الأحجار، تثبيت الأجزاء المتصدعة وإعادة بناء أجزاء مهدمة من المدرجات بما يتناسب مع التصميم الأصلي.
وخلال العقود الأخيرة، تحول المدرج إلى واحد من أهم المواقع السياحية في الأردن حيث يستقبل مئات الآلاف من الزوار سنويًا. كما أصبح موقعًا لإقامة الفعاليات الثقافية والفنية الكبرى، من ضمنها مهرجانات الغناء والموسيقى والفنون الشعبية. مما جعل المدرج يعود إلى وظيفته التاريخية كمركز للفنون بعد توقف دام قرونًا.
محيط المدرج
يقع المدرج بالقرب من ساحة “الهاشمي” في وسط عمان، وهي منطقة نابضة بالحياة، تحتضن أسواقًا شعبية ومباني ذات طابع تراثي مما يجعل زيارة الموقع تجربة ثقافية متكاملة. كما يوجد بالقرب منه “متحف الحياة الشعبية الأردنية” و”متحف الفنون الشعبية”، وهما مبنيان داخل قاعات أثرية ملاصقة للمدرج. ويقدمان سردًا حيًا لتاريخ المجتمع الأردني من خلال الأزياء والمقتنيات اليومية.
المدرج بين الماضي والمستقبل
اليوم، لا ينظر إلى المدرج الروماني باعتباره مجرد معلم أثري، بل بوصفه مساحة تفاعل ثقافي بين الحاضر والماضي. فقد أصبح معلماً يعكس هوية مدينة عمّان الحديثة التي تجمع بين التاريخ الروماني العريق والروح العربية المتجددة. كما تسعى الجهات المعنية بالحفاظ على التراث إلى تعزيز استخدام المدرج للأغراض الثقافية والفنية مع وضع خطط جديدة لتطوير المنطقة المحيطة به وتسهيل حركة الزوار.



