كتابنا

وجوه حزب الله

بقلم..عبد الحليم قنديل

   القصة أكبر من وزير الإعلام اللبنانى جورج قرداحى ، ومن تصريحات صدرت عنه قبل توليه منصبه ، تناولت باللوم حرب السعودية وتحالفها فى اليمن ، وإن كان غاب عنها ما لا يصح أن يغيب ، وهو دور “الحوثيين” المقابل فى حرب التدمير الشامل لليمن ، و”الحوثيون” أداة إيرانية بلا شبهة إنكار ، وهم قوة رجعية عنصرية سلالية طائفية بامتياز .

ولا يبدو ميل السعودية للانتقام من لبنان فى محله ، فهو لن يجلب نصرا استحال فى حرب اليمن عبر سبع سنوات ، وليست القصة أن يبقى قرداحى فى منصبه ، أو أن يذهب ، والسعودية نفسها تقول ذلك ، ومشكلتها المعلنة فى “حزب الله” ونفوذه اللبنانى ، وتتصور السياسة السعودية أن بوسعها إنهاء سيرة حزب الله ، أو دفع اللبنانيين تحت ضغط الخنق الاقتصادى ، إلى شن حرب إفناء ضد حزب الله ، وهذه وصفة مضمونة للفشل ، وقد أخفقت إسرائيل نفسها فى تقويض الحزب ، وفشلت عقوبات أمريكا فى المهمة ذاتها ، وليس بوسع “الرياض” أن تفعل ما عجزت عنه “واشنطن” ، فصحيح أن “حزب الله” مرتبط عضويا بإيران ، وزعيمه حسن نصر الله أعلن مرارا تلقيه كل صنوف الدعم من طهران ، وأن مرجعيته هى فتاوى المرشد الإيرانى على خامنئى ، لكن حزب الله له وجوه أخرى غير الوجه الإيرانى ، فقد قاوم وصمد وهزم “إسرائيل” مرات ، وكان عنوانا لمقاومة عربية استشهادية من نوع مختلف ، أجلت الاحتلال الإسرائيلى بالقوة عن جنوب لبنان ثم عن غزة ، ولا تخاف إسرائيل قوة فى المشرق العربى المحطم ، أكثر مما تخشى من “حزب الله” ، وترسانة أسلحته وصواريخه المتطورة ، برغم أن حربا شاملة لم تقع بين الطرفين منذ نحو 15 سنة ، تحول فيها سلاح حزب الله إلى العناوين الخاطئة بالجملة ، من تورطه الطائفى فى مستنقع حروب الأزمة السورية ، وإلى دعمه السياسى والميدانى لحروب دمار ، قادها الحوثيون فى اليمن ، ومن دون أن تكون هناك حسابات وطنية ولا قومية عربية منظورة ، بل سيطرت الاعتبارات الإيرانية المحضة على سياسات الحزب ، الذى اشتهر أساسا بحروب المقاومة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى ، لكنه تناسى الدرس الجوهرى لنجاح وسمعة أى مقاومة ضد إسرائيل ، وهو أن تقف بسلاحها بعيدا عن التورط فى أى شئون داخلية لأى قطر عربى ، وأن لا يكون السلاح الذى يقتل الغزاة الصهاينة ، هو نفسه السلاح الذى يوجه لصدر عربى .

نعم ، فقد سلاح حزب الله كثيرا من جاذبيته وبريقه عند الشعوب العربية ، وتورط فى قتل السوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم ، وهو ما جعل الدعاية ضد حزب الله ، تجد آذانا تصغى وتصدق ، ودون أن يكون من طرف مستفيد أكثر من إسرائيل أولا ، فالذين يناهضون حزب الله بدعوى إيرانيته ليسوا أكثر عروبية من قادة حزب الله ، اللهم إلا من باب التظاهر بعروبة مريبة ، تجعل خدمة إسرائيل والتطبيع المجانى معها ، شرطا من شروط الانتساب لقومية عربية مهينة مهانة ، تتذرع بمواجهة تفشى النفوذ الإيرانى ، بينما هى التى كانت سببا فى توحش التوسع الفارسى ، من حروب احتلال العراق إلى حروب تحطيم سوريا .

ومع التسليم بأخطاء حزب الله ، إلا أن اقتلاعه من لبنان ، يبدو هدفا مستحيل التحقق ، فهو ليس حزبا طافيا على سطح الحوادث ، وقاعدته الاجتماعية الشيعية بالغة الاتساع ، وهو مغروس بعمق فى تربة التاريخ اللبنانى المعاصر ، وقوته المفرطة لبنانيا ، تحرم أى طرف مغامر من فرصة التفكير بحرب أهلية جديدة ، وتوازنات لبنان الطائفية الحرجة ، لا تتيح لأحد ترف مسايرة السياسة السعودية فى هدفها العبثى بقطع دابر حزب الله.

عبد الغفار شكر

رحل عنا قبل أيام القائد الفكرى الجليل عبد الغفار شكر فى عامه السادس والثمانين .

ولا أجد عندى فى وداعه ، أفضل من نشر بعض ما كتبت قبل ست سنوات ، فى مقال حمل اسمه وقلت فى نصه “ربما لا يكون لهذا المقال من مناسبة ، سوى أن المعنى به لايزال يعيش بيننا ، وندعو الله أن يمد فى عمره ، وأن يظل يضئ حياتنا ، فهو كيان إنسانى عظيم التفرد ، يصعب أن نعطى له لقبا ونكتفى به ، وقد فكرت أن أكتب عنوانا لمقالى عنه ، وخطرت فى ذهنى ألقاب بينها “مفتى اليسار” و”معلم الأجيال” و”الرجل الذهبى” ، ثم وجدت عسرا فى أن أكتفى بأى لقب أو عنوان ، ووجدت الكفاية كلها فى ذكر اسمه الجليل “عبدالغفار شكر” .

هو رجل البسالة الإنسانية بلا ضجيج ، وبوسعه أن يضفى حتى على الأشياء الجامدة حيوية متدفقة ، تأمل ـ مثلا ـ مقاله الموسوم “مجتمع الكراسى المتحركة” ، وقد نشرته له “الأهرام” فى 14 نوفمبر 2015 ، مع اكتمال عام بالضبط على اكتشافه إصابته بجلطة فى المخ ، وهو يصحبك من غرفة نومه التى فوجئ فيها بما جرى فجرا ، إلى عيادات الأطباء ، وإلى صالة العلاج الطبيعى ، فقد أصبح من ذوى الكراسى المتحركة على مدى شهور طويلة ، لا تلحظ فيها أنه يشكو من ألم ، أو يتخوف من عجز ، بل تصحبك وجوه أطبائه ، ويرسم لهم صورا مؤثرة ، تجعلهم من أصدقائه وأصدقائك ، مع أقسام العلاج بالماء والعلاج بالعمل فى مركز عسكرى يضج بالمدنيين والمجندين ، وهيئة التمريض من العقيد “سهير” إلى الصول “جيهان” والنقيب “رشا” ، ولا ينسى بطله مساعد التمريض المتفائل “وجيه” ، الذى كان صوت غنائه الصباحى من آخر الممر ينشر الارتياح فى النفوس الحالمة بالشفاء ، وبينها نفس “راقصة الباليه” التى أصابها فيروس فتخشب جسمها ، وفى نهاية مقطوعة التعاطف الإنسانى العذبة ، يقول لك عبدالغفار شكر خلاصته ببساطة ، ويلخص العبرة والعظة بقوله نصا “ما أعيشه الآن هو تجربة إنسانية . لم أشعر خلالها باليأس أو بالإحباط . ولكنى أتمسك بالأمل فى الشفاء . وعلى استعداد لترتيب أولوياتى وحياتى على ضوء الوضع الطبى الجديد” .

أعدت قراءة المقال مرات ، وتذكرت أننى جبنت وتراجعت ، ولم أكن من الأصدقاء الذين زاروا عبدالغفار شكر فى رحلة العلاج ، واكتفيت بالاطمئنان عبر هاتف ابنته الوحيدة “أميمة” ، فلم أكن أجرؤ على رؤيته فى وضع الضعف ، وهو الرجل الذى عرفته أكبر من كل ضعف ، كنت طالبا فى جامعة المنصورة ، وانضممت لحزب التجمع أواخر سبعينيات القرن العشرين ، وكنت أسيرا لشخصية عبدالغفار شكر بالذات ، لم يكن الرجل وقتها من الأسماء الرنانة التى تتداولها الصحف والإذاعات ، لكنه كان حزبا فى رجل ، كان طاقة عمل ديناميكى معجزة ، وذهنا مرتبا صافيا ، كان ينطق الكلمات فى سلاسة كأنه يتلوها من لوح محفوظ ، وكانت أغلب وثائق التجمع ولوائحه وتقاريره الأساسية من صناعة يده ، لا تلحظ اهتزازا ولا شطبا فى كلماته الناصعة المنسابة فوق ورق مسطر بعناية ، وكان بوسعه أن يكتب بيانا سياسيا ضافيا بليغا دقيقا فى ثلاث دقائق ، كان الرجل فى نصف عمره الآن ، وكان مثالا مبهرا يشدنى إليه ، وسرعان ما وجدت نفسى زائرا مرحبا به فى بيته ، لم يكن بيتا مما تتوقع لابن عمدة قرية “تيره” الذى مات فى حربه مع الإقطاع ، بل مجرد شقة متواضعة فى المساكن الشعبية المطلة على نيل “طلخا” المواجهة لأضواء “المنصورة” ، كنت أناقش الرجل فى حدة أحيانا ، وكان يرد بوضوحه وهدوئه الذى غلبنى ، وجعلنى معتادا على المشى معه عبر “الكوبرى” العتيق فوق النيل ، وإلى حيث مقر ندوة “الأربعاء” فى حزب التجمع أعلى مقهى “أندريا” الشهير ، كان شكر هو مؤسس الندوة، وقد أسس مثلها فى المقر الرئيسى لحزب التجمع وسط القاهرة ، كان الرجل يقضى نصف يومه هنا والنصف الآخر هناك، ولم ألحظ تعبا على الرجل الأربعينى وقتها ، وإلى أن أصابنى الفزع على السلم متسع الدرجات فى المبنى “الباشاواتى” العريق ، كان شكر يصعد فى تؤدة ظاهرة إلى حيث مقر “التجمع” بالمنصورة ، كانت تؤدة الرجل منضبطة كانتظامه العملى الفائق ، وكنت نادرا ما أعبر عن فضولى ، لكنى تورطت فسألته ، وكان الجواب مفاجأة ، فقد أخبرنى الرجل بهدوء عن السبب فى تمهله بصعود السلم المضاء ، وقال أنه أصيب بأول ذبحة صدرية فى الثلاثين من عمره ، ولم يكن أمامى سوى أن أصدق الصادق ، برغم أن أحدا كان لا يمكنه أن يتوقع ، فقد كان الرجل يبذل نشاطا لا يستطيعه أشد الأصحاء ، وهو الذى تولى تربية وتثقيف قرابة النصف مليون مصرى بمنظمة الشباب الاشتراكى فى الستينيات ، بدأ الرحلة الشاقة وعمره أقل من الثلاثين ، ولم تمنعه الذبحات الصدرية المتوالية من مواصلة أشواط تثقيف الأجيال وراء الأجيال “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى