الحقيقة البكماءبين الصمت والجريمة في سرد ما بعد الحداثة للكاتبة العراقية سحر الرشيد

الحقيقة البكماءبين الصمت والجريمة في سرد ما بعد الحداثة للكاتبة العراقية سحر الرشيد
حاتم عبدالهادي السيد
تعد الروائية الباذخة، سحر الرشيد واحدة من أهم كتاب، وكاتبات الرواية في الوطن العربي، بل إنني أراها تحفر اسمها بجدارة في مسيرة السرد الروائي الكوني، العالمي، أيضا.
لقد اعتمدت الكاتبة سحر الرشيد أسلوبا مابعد- حداثي؛ لتنقل لنا أفقا تغريبيا؛ ادهاشيا؛ عبر سيمياء الأسطورة،وكأنها تنطلق من علاقه علم النفس بالرواية، أو تنقلنا الى عالم تداخل الأجناس الأدبية عبر مسيره السرد السيميائي الباذخ، الذي يأخذ القارئ- منذ البداية- إلى عالم الروح،واستبطان كوامن الذات الانسانية من جهة، وإلى عالم الأشباح، وجنيات الماء خلف المقابر، التي تخفي وراء أطلالها، وساكنيها قصصا وحكايات،تستدعي حيوات كانت ذات يوم هنا، عبر المكان فخلف كل قبر حكاية ووراء كل حكاية حكمة، وفلسفة، ومعان إنسانية تكشف عن مكتنزات السرد الشعري، الذي يعكس روح الجمال لدي الكاتبة التى تهفو إلى التكثيف، وتسارعية الأحداث، والإنتقال بسرعة عبر سينوغرافيا المشاهد، وكأنها تكتب للسينما، بإقتدار شديد، بارع، وجميل.
أنها رواية تنشد الحرية، وتحرر طاقة الروح والجسد ،فتدفع بالقارئ إلى أن يلهث لإستجلاء حقيقة الأحداث، عبر مسيرة السرد السيميائي، وعبر معادلات الذات والموضوع، والخطاب الروائي المائز ،والمبهر، والعجائبي، والإدهاشي والماتع الجميل،أيضا.
إن رواية “الحقيقة البكماء”، للكاتبة العراقية/ سحر الرشيد ؛ تستدعي -منذ البداية – التساؤلات الممتدة؛حول ماهية العنوان؛ الذي يحمل تناقضا ظاهريا، إذ الحقيقة جلية، واضحة، ومعروفة؛ ولكن وسمها بالبكم، يستدعي الصمت والسكون؛ والغرابة والدهشة،وكأنها أرادت المراوحة بين التناقضات؛ لندلف معها إلى ذواتنا المقهورة؛ لتظل الحقيقة خرساء، لا تستطيع التفوه، بما خلف ظلال المعاني والكلمات.
ويقيني إن استخدام الكاتبة لتقنية السرد التغريبي، قد منح الرواية فضاء أبستمولوجيا ممتدا، ومساحة تتناسب مع تتابع الأحداث، -وأعني بمصطلح السرد التغريبي- هنا؛ هو الجو الروائي العام لزمان ومكان الرواية، التي تنطلق عبر بيئة غربية، أوروبية؛ حيث ندف الثلج، والجليد ،والمعاطف، و”طقوس اليوغا”؛ وحذاء الثلج، والبيئة التي تفوح من هوائها روائح الغرب الأوروبي، رغم وجود دلالات أسماء أبطال الرواية العرب؛أو السريان،مثل: ابراهيم؛العم زكريا، إلى جانب سالي، و(تينا) زوجة إبراهيم الأولى؛ وهي أسماء أجنبية، ونرى بداية إلغازيات الرواية، وشيفراتها، حيث وجد إبراهيم زوجته، تينا، التي لم تتعد العشرين ربيعا، غارقة في أرجاء البحيرة، وبجانبها كرسيها المتحرك. ورغم هذه الإعاقة، وحادثة الغرق الشنيعة؛ فلم تعثر القوات الأمنية، على الجاني. ويعتقد ابراهيم زوجها أن والدها “العم زكريا”؛ هو الذي قتلها، رغم حبه الشديد لها، لخوفه على حياتها، بعد موته، أو قلقه، وخوفه من عدم عناية زوجها ابراهيم بها،بعد رحيله .
إنها رواية الدهشة، والخوف، والترقب؛ بل والرعب؛ وغياب الحقيقة، رغم عدم التصريح بالزمن،أو المكان، لتتحول الرواية؛ أو (النوفيلا) القصيرة، إلى (أسطورة تانيا)، ذات الثوب الأبيض، الملطخ بالدماء، والأصباغ الحمراء، وصاحبة الشعر الأصفر الطويل، التي تحولت بعد موتها، إلى احدى جنيات الماء، وظهورها لسالي، وإبراهيم ووالدها، كشبح، أو جنية جميلة، عبر مثيولوجيا التخييل.
لقد تحول والدها” العم زكريا”، بعدها الى مجذوب، أو مختل نفسيا، وحركيا، وجسمانيا، فنراه قد ترك عمله – ككاتب للمسرح، وأحد أهم الماهرين في “مسرح الدمى” ليصبح مجذوبا، أو غير متزن نفسيا وعقليا، بعد موت ابنته،أو قتلها بحسب الرواية .
وكأن التماثل النفسي، والتقارن، قد أحالا عمله الفني التمثيلي؛ إلى واقع حقيق، لتغرق (تانيا)، في ماء البحيرة؛ بعد أن تدحرجت بكرسيها المتحرك فوق الصخور العاتية؛ التي تنتهي إلى قلب البحيرة المترقرقة الأمواج .
إن الرواية تنتمي -فيما أزعم- إلى جنس
” أدب الصمت والسكون”؛ الذي يمرر الفجيعة،والوحشية،والجريمة، وقسوة الإنسانية، والقتل؛ والدماء، رغم وجود الحب والحنان والحرية، وشاطىء البحيرة الجميل.
وأدب الصمت والسكون؛ هو نوع من الأدب العالمي، الذي رأيناه في أوروبا، وفي أمريكا اللاتينية، وفي بعض قارات العالم.
ولعل الفوضى التي كان يعيشها سكان هذا المكان، هي فوضى ركنت إليها، “ما بعد الحداثة”؛ عبر متناقضات تقدم المشهد الإنساني المخاتل، والمتناقض، على أطباق الدماء والرعب، والخوف، بجانب القلق النفسي، وعدم الإتزان، مثل ما شاهدنا عبر شخصية “العم زكريا”؛ الأبكم،الأصم؛ والعاطفي؛ مرهف الحس؛ والساخط؛ والمفزوع، والقلق، وصاحب القلب الرحيم؛ والوحشي، معا.
إنها التناقضات في أدب “ما بعد الحداثة”؛ التي تجمعها فلسفة الرواية العالمية،الكونية، والتي هي – كما أرى- تجمع بين متناقضات : “أدب السكون والصمت”، و”أدب الضجيج والرعب”، و”أدب الفضيلة والحب”؛ والجمال؛ عبر الطبيعة الخلابة،والهدوء والأسرار؛ التي تختفي خلف القبو ؛والكابينة، والجبل، والبحيرة؛ والقبور الثلاثة، الوحيدة هناك، كذلك.
إن الكاتبة العراقيةالسامقة أ./سحر الرشيد ، تقدم لنا “نوفيلا الرعب”، و” رواية المخاتلة”؛ فنراها عبر “ثيمات الرواية”؛ الما بعد- حداثية، تقدم لنا تناقضات الذات الإنسانية، وعالم الأسرار الذي يخفيه العم زكريا-رغم تظاهر بالختل،فكيف لمختول أن يقود السيارة عبر جبال الثلج عندما علم بأن “إبراهيم”، قد أصيب في حادث، فرأيناه يقود السيارة بدلا من “سالي” ، زوجة إبراهيم الثانية، مدربة “اليوغا”الجميلة؟!.
إنها رواية مأزومة، مأساوية، تراجيدية، تقدم الرعب والطمأنينة معا، والجمال والصفات الإنسانية المختلفة : من حنو وحب وحنان، وقتل وانتحار، وصخب؛ طوال الوقت، وهدوء وضجيح نفسي ،وعاطفي طوال الوقت .
إن رواية ” الحقيقة البكماء”؛ هي رواية سيكولوجية، تؤطر ” لأدب الجريمة”؛ حيث الدماء، والندم، ثم القتل، والانتحار، لأبطال الرواية. كما تأتي رمزية وجود ” الغراب”؛ في المكان، دالة، ورمزية تشير إلى الموت، وربما تحيلنا عبر المماثلة، والتناصات السياقية،إلى قصة ” قابيل وهابيل”،
أبناء : ” آدم وحواء” . وكأنها استطاعت عبر “تماثل الأسطورة”؛ أن تحيلنا إلى جذور التاريخ البشري، والقتل، والدماء، ويجىء الغراب ليرشد بنى آدم إلى الدفن بعد الموت.
إن الروائية /سحر الرشيد تعيد تشكيل الأسطورة، وتصنع لنا “أسطورة فتاة اليوغا بين الجبل والبحيرة”، أو أسطورة(تينا) الفتاة البريئة ذات الشعر الأصفر الطويل الذهبي،وهي في ثوب العرس الأبيض الملطخ بالدماء. كما ترسم الكاتبة مشاهد الرواية بإقتدار، كأننا أمام لوحات عالمية جميلة “لفتاة الثلج”، ولعالم الجبل والبحيرة، وشبح تينا الذي يظهر لهم في الحجرة، والقرب من أماكن الإستحمام، وفي الغرفة السرية؛ التي تخفي أسرار الجزيرة، وثياب ” تينا”،الممزقة إلى قطع صغيرة، والمصبوغة بالطلاء الأحمر، الذي يقوم بتلوينه العم زكريا، ويظل يمسك بالقطع من الثياب التي تحمل بين نسيجها ذكريات القتل، والدماء المتناثرة.
إن هذا الواقع العجائبي للأحداث،أو “سينوغرافيا المشاهد السينمائية”، المرعبة، قد أحال النوفيلا إلى أسطورة صنعتها /سحر الرشيد ببراعة، وكأننا أمام “أساطير بابل”،أو “أسطورة حياة الإنسان على الأرض منذ عهد ” آدم وحواء”، حتى الآن . !!
إن الكاتبة هنا تستخدم تقنية “الفلاش باك”، وسينوغرافيا السرد السيمولوجي العميق، عبر تسارعيه المشاهد، والمواقف التداولية، التي لا تترك للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه، أو مشاركتها “لعبة التخييل ….والتأويل”؛ لأنها أدخلته إلى قلب الأحداث، ليعيشها، عبر سينوغرافيا السرد السيميائي المدهش، وعبر تتابعية وانتقال المشاهد، وعبر “تتابع الحبكات”؛ التي تنقله -طوال الوقت-إلى عالم الدهشة المروعة، وكأننا أمام “مسرح الطبيعة”، السينما الرعب، والجنون، والمخاتلة”؛ عبر عزف البيانو ، وكونشيرتو الجمال الفطري الممتد، عبر سيمفونية الأسطورة التي تجيد عزفها التراجيدي، بينما يكرهها “العم زكريا”؛ كي لا تذكره بالماضي، وبموت “تينا”، ابنته، أو قتله لها؛ بحسب شكوك إبراهيم ، زوجها كذلك.
إنها “رواية نفسية”-كذلك-، وقد دلل إلى ذلك حالة “العم زكريا”، بعد موتها، حيث أصيب بصدمة عصبية، أو لوثة ذهنية، نفسية؛ احالته إلى أصم وأبكم ، وغير متزن نفسيا، وسلوكيا، وعاطفيا،فغدا “أبكما”؛ لا يستطيع نطق الحقيقة؛مثل عنوان الرواية : “الحقيقة البكماء”. !!
تبدأ الرواية؛ -وتنتهي كذلك- بقبر رجل عجوز ، وقبر فتاة، وشاب، بجانب البحيرة النائية، التي يتخللها فنار مهجور، تسكنه الخفافيش، وتحلق فوقه الغربان، التى تدلل إلى الموت، رغم اطلالة المكان على مشاهد الجمال عبر الجبل، وماء البحيرة والأشجار والكابينة الوحيدة التي يمتلكها العم زكريا، والتي أهداها إلى ابنته عند زواجها من إبراهيم. وبموت زوجته آلت ملكية الكابينة – بحسب القوانين هناك- إلى الزوج ، لكن عاش العم زكريا مع ابراهيم في هذا المكان النائي، المخيف، والساحر أيضا، ليتذكرا معا (تينا) ، التي سقطت من فوق الصخور بكرسيها المتحرك داخل البحيرة الصاخبة.
وتظهر شخصية البطلة “سالي”؛ “مدربة اليوغا” ؛في المشهد بحبها للهدوء، وممارسة اليوغا في هذا المكان البديع لتبدأ الرواية عملها السيسيولوجي، السيميائي، عبر السرد المخاتل؛ وأحداث أسطورية عجيبة، غير متوقعة، ليعجب بها إبراهيم ويتزوجها، بعد ذلك، لتنتقل “سالي”، من حياة المدينة، إلى حياة الجبل؛ والبحيرة، والرعب، والخوف من تصدع جبال الجليد، إلى جان حياة الراحة والهدوء، والجمال الفطري لسينوغرافيا المكان البديع ، في الصباح الذهبي المشرق هناك.
وعلى الرغم من أن الرواية لم تحدد مكانا، ولا زمانا بعينه، لمسيرة تنامي الأحداث، ورغم تركها النهاية تخييلية، أو لتشاركية القارئ، ليتخيل نهاية تقارنية مفجعة لمشهد مقتل العم زكريا،ووجود الوحوش تنهش من جسده، ووجود إبراهيم مقتولا، أو منتحرا بعد أن تدحرج مثل زوجته على كرسيه المتحرك ،بعد أن أصيب بالشلل بعد الحادث الذي تعرض له من قبل.
وتترك الكاتبة الجميلة أ./ سحر الرشيد النهاية مفتوحة، لتخييلات القارىء، عبر براعة التساؤلات عمن قتل العم زكريا؟وهل إبراهيم قتله، ثم انتحر، أم أن العم زكريا هو الذي رمي بإبراهيم من فوق الجبل،فتدحرج نحو البحيرة ليموت مقتولا، ثم ترك نفسه للوحوش لتنهش جسده وتفترسه كذلك؟!.
إن هذه النهاية التراجيدية المأساوية المفجعه تحيل الخطاب الروائي إلى مشاهد إدهاشية مفزعة، ولقد تجلى ذلك عندما رأينا رعب سالي زوجته الثانية- وفزعها من هول هذه المشاهد، داخل الحجرة السرية التي تخفي التاريخ والجغرافيا والأحلام. إلى جانب ظهور شبح تينا المستمر لها، وكأنها احدى جنيات الماء التي ظلت تطاردها منذ أول ظهور لها في هذا المكان، لتسألها عن سبب مجيئها هنا، أو كما تقول: “ما سبب مجيء هذه المرأة الغريبة من المدينة، لتعيش هنا في هذا المكان النائي، وتتزوج زوجها الأول ابراهيم؟!.
إنها لعنة البحيرة، أم قسوة الجبل؟ أم قسوة الإنسانية، التي تحيل سكان هذا المكان البديع إلى وحوش، وقتلة، وأشباح مخيفة، تولغ في الدماء، رغم تحليهم بكل القيم الانسانية الجميلة، والمتناقضة كذلك : فمن حب ورأفة، وحنو ،وحساسية مفرطة نحو الجمال، إلى كراهية، وتربص، وقتل وانتحار؛ كذلك؟!!.
أسئلة كثيرة تستدعيها الرواية. ثم ما الحقيقة البكماء السرية التي لم تستطع الكلام ،لتفسر لنا جوهر الحكاية،والأحداث، وتسقط كل ذلك على الواقع؟!.
ماذا تريد أن تقول الرواية إذن، وما الذي تهدف إليه؟ وهل تؤسس لإبداع عربي، عالمي جديد ؛عبر المكان والزمان؛ لتمرير الفحش والقتل؛ والتناقض، رغم جمال الحياة،والمكان، ورغم قسوة الحياة، ومأساتها كذلك ؟. وهل تؤسس الكاتبة القديرة/ سحر الرشيد لرواية تجريبية، ما بعد حداثية، أم أنها تستشرف حساسية جديدة، تستدعي من خلالها كل مقومات البنى السردية والخطابات التداولية والدراماتيكية المتلاحقة للأحداث؛ لتعيد النظر في بنية السرد الروائي العربي، وتجدد ثوبه من جديد؟ أم أنها إحدى روايات الرعب، التي تستدعي إليها الميثولوجيا لتحيلنا الى أهمية الأسطورة من جديد.
في النهاية : يظل الجبل، والبحيرة، وأسرار القبور، والعالم السري؛ للمكان النائي، والأماكن المعزولة عن السكان، لها أسئلتها المشروعة، التي استدعتها مسيرة السرد الروائي هنا ،فلم يعد التمهيد عاملا رئيسا لانتقال الأحداث، ولم يشعر القارئ بفجوة، عبر هذه المشاهد المتلاحقة. كما أن الكاتبة تمزج السرد هنا بتقنية الشعر، عبر واصفات السرد الشعري، واللغة الشاعرة، المائزة.
إن رواية ” الحقيقة البكماء”؛ هي رواية تجديدية بإمتياز . وقد استطاعت الكاتبة الرائعة/ سحر الرشيد – كما أرى- أن تجدد الثوب الروائي العربي، وتمكيجه بمسحة أوروبية غربية، لنقف أمام رواية عالمية، تمزج الأصالة بالمعاصرة، وما هو عربي، بما هو أوروبي. وهي رواية عابرة للأجناس الأدبية، التي تصهرها معا،عبر مسيرة الأحداث، لتظل المبدعة المونقة الباذخة / سحر الرشيد واحدة من الروائيات العربيات، اللاتي ينشدن التجديد في مسيرة السرد الروائي. حيث تسعى إلى التميز، والفرادة، وارتياد أماكن جديدة، عبر الموضوعات التي أفردت لها مساحة كبيرة هنا؛ وإننى -ولا غرو- أرى أن هذه الرواية من أجمل الروايات العربية، في العصر الحديث.
تظل العراقية سحر الرشيد واحدة ممن ينشدن التجريب، وجدير بأن يكتب اسمها من بين أهم الكاتبات في العالم العربي . بل أن روايتها هذه تستحق الترجمة، لتكون في معيه الروايات العالمية المعاصرة.