حاتم عبدالهادي السيد يكتب : الصناعات الفنية الإبداعية والدراما
حاتم عبدالهادي السيد يكتب : الصناعات الفنية الإبداعية والدراما
تعد الدراما أقدم أنواع الفنون الأدبية المكتوبة، أو التي يتم تأديتها على خشبة المسرح، وهي فن ظهر بداية في اليونان، وارتبط بمعطيات ثقافية وسياسية واجتماعية، وتوجهات أرستقراطية لخدمة الطبقية أولا ، ثم توسع الهدف منها عبر العصور والمجتمعات، ليشمل التعبير عن الشعوب والطبقات، بل غدت الدراما أداة وسلاحا للمقاومة بالفن، لتحرر الشعوب. كما غدت الفنون كالشعر والرسم والموسيقا، والتمثيل أدوات للرفاه، وطريقة من طرق العلاج النفسي، وظهرت السيكودراما، ثم المونودراما والميلودراما، لمعالجة قضايا اجتماعية، ومشكلات نفسية، وأداة للتقويم العلاجي، وغير ذلك.
ولعل أبرز الأدوار التي قامت بها كونها استطاعت أن تكون صوتا فاعلا لتوجيه الرأي العام للدول والمجتمعات كذلك.
كما تؤثر الدراما على نواتج الإستثمار القومي والإقتصاد، بل غدت الفنون سوقا سلعية فنية، تتبارى فيه الدول لخلق تنافسية تستدعيها طبيعة السوق، ولقد رأينا الشركات الكبرى تحتكر الكثير من هذه الصناعات خاصة فى مجال دراما الأفلام، وإنتاج المسرحيات، والروايات ،وإقامة المهرجانات، وتقديم الجوائز، ومن هنا غدت الدراما سلعة اقتصادية. ولننظر لصناعة السينما عبر هوليوود، وبوليوود، وغيرهما، ومدى تدخل الدول في توجيه هذه الصناعة من أجل الهيمنة، ونشر الثقافات،والعادات، وترويج السلع الاستهلاكية أيضا، من خلال نشر الموضة، وتقليد الجمهور للأبطال في ملابسهم، وشكلهم، وطريقة معيشتهم، ونوع سياراتهم، وأصبح الفن أحد الأسلحة الإستعمارية، أو القوة الناعمة للحكومات والدول، لتوجيه المجتمعات نحو الهيمنة، ذلكمعولمة السياسية، والثقافية، وتغليب ثقافة ما، وفتح أسواق عالمية ذات طابع أيديولوجي، في ظل غياب القيم،والإيمان واليقين، والمعني .
لقد رأينا – مثلا-انتشار أفلام الكاوبوي من قبل، وتقليد ملابس نجمات هوليود ومكياجهم، وهو الأمر الذي ساعد الكثير من شركات الملابس والأزياء، والمنتجات وأدوات التجميل، وغيرها، لتحقيق ثروات كبرى، إلى جانب نشر الثقافات الإمبريالية، والأوروبية، والعالمية، التى تسعى للمنافسة،والسيطرة والإحتكار،والهيمنة على مقدرات الثقافة والفنون، واحتكار ثروات الأمم، وتغليب القطبية،والعولمة، والأمركة، لنشر عادات وقيم وثقافات أخرى، توجه الرأي العام العالمي، وتضرب بعمق التراث والهوية ، وتجابه الأديان، وغير ذلك .
لقد تباينت الدراما باختلاف الثقافات،وتنوع الأمكنة، وتباعد الأزمنة، والبيئات الثقافية، كما تأثرت بثقافات الشعوب، ومدى استيعابها للفن كأحد المرتكزات التي تدخل في قضايا الأمن القومي الثقافي للدول، لأنها تشكل الوجدان والذائقة الإجتماعية والسياسية للشعوب، وتؤثر في صميم الهوية والإنتماء والوطنية، لارتباط ما تقدمه بالواقع، أو لربطها التاريخي بالمعاصر، عبر اسقاط المشكلات الإجتماعية وتجسيد الظواهر، التي من شأنها خلق رأي عام شعبي،جماهيري عام، وهو من الأمور التي أدت إلى ظهور علوم وآفاق فنية لتشابك الفنون، مما استدعى مناقشة قضايا كبرى، كعلاقة المثقف بالسلطة، وعلاقة الفن بتوجيه المجتمع لخدمة السياسة، أو الإقتصاد،باعتباره القوة الناعمة التي توجه السياسة والإقتصاد، والفكر العام الإجتماعي، والثقافي،والديني .
كما يؤثر الفن على صناعة القرار السياسي باعتبار الفن قوة غير مباشرة، ووسيلة ضاغطة على صانع القرار، من أجل مصلحة الشعوب، وتلبية حاجاتها ومصالحها ومتطلباتها الإنسانية،وغير ذلك.
الدراما الرمضانية:
لعلنا نستطيع القول بأن مصطلح الدراما الرمضانيه ارتبط في الذهنية المعاصرة بعروض الفنون المسرحية، والتمثيلية والغنائية، والاستعراضية ، والأدائية، خاصة في شهر رمضان، وذلك لأن كثيرا من منتجي الدراما يؤجلون عروضهم إلى موسم شهر رمضان ،وذلك لأن هذه الفنون الدرامية تحظى بمشاهدات أوسع، واقبال جماهيري منقطع النظير، سواء على الشاشة الصغيرة (التلفزيون) أو من خلال دور السينما، والمسرح، أو حتى الأماكن العامة، والخاصة( القطاع الخاص)كما تنشط الفنون الأدائية والقولية (الحكواتي)، وفرق السامر، وعروض مسرح الطفل، والأوبريت الديني الغنائي، وغيرها. والتي تلقى قبولا مشاهداتيا، لدى الجمهور المصري والعربي، طوال أيام هذا الشهر الفضيل، وكذلك في الأعياد والمناسبات العامة القومية إلى جانب المهرجانات، وعروض دور الأوبرا وما تقدمه من فنون درامية وأوبرالية مائزة ، تستهدف ثقافة الخاصة، كما تلقى العروض الدرامية الشعبية والتاريخية، والكوميدية، اقبالا من جانب الجماهير، حيث تختلف العروض التمثيلية والأدائية في الريف عن المدن، بحسب الثقافة الشعبية السائدة. ولقد وجدنا في الريف المصري نجاح دراما حكايات السيرة الشعبية: (السيرة الهلالية، سيف بن ذي يزن، الزير سالم، وسير الأبطال الشعبيين، ومسرحيات الظل، ومسرح الجرن، والريف، والمسرح الحر، وغير ذلك).
وكل هذه التواشيح الدينية، والحكايات الشعبية، والمواويل وفن السير،كأيوب ونعسة، شفيقة ومتولي، وحكايات زهران،وغيرها، تلقى قبولا في الأوساط المجتمعية البروليتارية الريفية الفقيرة، لأنها توافق الذوق العام للمستمعين،وتخاطب مشاعرهم وأحلامهم، حيث البطل الشعبي هو محور هذه الحكايات بتعدد أهدافها وأغراضها، وما تمسه من هموم، وطموحات لديهم.
أما المجتمعات المدينية فنجد تباينا في العروض عبر مسارح الدلة، والمسرح الخاصة، وأخيرا مسارح الثقافة الجماهيري لوزارة الثقافة(القطاع العام)،وغيرها. كما نجد دور السينما التي تستهدف الجمهور الأعلى ثقافة، وتمدينا، وهنا تلعب الصناعات الثقافية الابداعية دورها في التنافس، لتقديم منتجات ثقافية فنية استهلاكية تدر ثروة كبيرة،على المنتجين والشركات الفنية، وتسهم في(الصناعة الفنية)التي تمثل احدى نواتج الدخل القومي للدولة.
وما ألحظه- كما أرى- ظهور مسلسلات وأفلام يكتبها كاتب السيناريو، ويعد لها السيناريست الحوار، دون وجود أصول سابقة للعمل التمثيلي،أي دون الرجوع الى أصل روائي، أو مسرحية مكتوبة، أو مطبوعة يأخذ عنها مادة السيناريو، ومن هنا عروض المسرح والمسلسلات والأفلام دون الرجوع إلى كاتب بعينه، أو غاب عن المشهد الكاتب الأصيل للعمل الفني التخييلي، واتجه كتاب السيناريو لكتابة القصة والسياسية والحوار معا، بل ويمكن أن يقوم بإخراج العمل كذلك، وهو ما يضر بجودة العمل- كما أرى- واإن نجح كتاب كثيرون مثل اسامة انور عكاشة، وغيره في تقديم سيناريوهات ناجحة دون وجود أصول لكتاب آخرين يتم صوغ المسلسل، او الفيلم او المسرحية منها، وغدت حاجة السوق، وذائقة المتلقي تتحكم في الإنتاج، دون النظر إلى القيمة، ومن هنا نشأ (القطاع الخاص) ليقدم منتجات تستهدف الشباك، أي المال، دون تقديم قيم مسرحية أكثر غناء، وجودة، ولا نقول كلها بالطبع، ولكن في ظل تراجع، بل غياب دور الرقابة، غدا الانفتاح الفني للصناعة هنا بمثابة الخروج عن كثير من التابوهات، دون الإهتمام بظهور منتوج هادف، أو على الأقل يحفظ للمجتمعات هويتها وأصالتها، وهو الصراع بين قيم الأصالة والحداثة والمعاصرة،وتسيدت قيم ما بعد الحداثة، التى تقاوم الهوية، وتستعدي الموروث من خلال العولمة والانفتاح الكوني على القيم والعادات الغربية التي تنظر لحركة الفن اللامحدودة، ولو على حساب القيم والأديان، ومن هنا تتم الثغرات الإستعمارية،كما أرى، وغير ذلك.
لقد ظهر المسرح التجاري، وصناعة الفيلم والمسلسل من أجل تحقيق العوائد المالية الأكثر مبيعا، ومشاهدة، وتم البعد تماما عن المسرح والفن الجاد -نوعا ما- لصالح الإنتاج الفني الذي يستهدف الروحية فحسب، وهنا لن نجد مكانا للفنون الجاة، فقد سيطر السيناريست ،مع المنتج، على موضوع العمل الفني، بل رأينا انتهاك من جانب المنتج على المخرج، وكاتب السيناريو لتقديم أعمال تجارية هزلية، أو تقديم دراما مشوهة، أو موجهة-كالتي في مسرح ودور عرض القطاع العام كذلك- وربما لم نعد نسمع في المسلسلات والأفلام تهتم بموضوع العمل، ولن نجد روايات تاريخية مثل روايات لنجيب محفوظ، أو مسرحيات ذهنية لتوفيق الحكيم، او روايات اجتماعية مثل روايات احسان عبد القدوس، أو روايات رومانسية مثل روايات محمد عبد الحليم عبد الله، وغيرها.
ولسنا نحن مع تجمد الفنون، أو الإصرار على تقديم تابوهات معينة فحسب، لكننا مع كل تطوير وتجريب، ولقد رأينا بعض الكتاب الجدد المعاصرين، وكتاب السيناريو الرائعين، لكنهم قلة، فانحدرت الصناعة الفنية المصرية والعربية لأنها اعتمدت تقديم قصص وأفلام ومسرحيات تنتهي بنهاية رومانسية في زواج المحبوب من محبوبته، أو نهايات مأساوية، وقلة بدأت تترك مساحة للجمهور ليتخيل عبر النهاية المفتوحة، وكأن تنمية الفن وأدلجته غدا سمة لصناعة الفنون المصرية والعربية على السواء.
لقد انتشرت السينما الإفريقية، وغدت تنافس هوليود في تقنياتها(بوليود إفريقيا)، ولنضرب مثلا بدولة نيجيريا التي تقدمت بشكل لا مثيل له في عالم السينما، والفنون الأدائية، والإستعراضية، وغدت الثيمات الشعبية، والموروثات سمات حاضرة في المعاصرة، فقدوا فنا مختلفا يحفظ الهوية، ويقدم المعاصرة،بل وينافس في الفنون المابعد حداثية.
ولعل الملحوظة التي وجدتها في مسلسلات وأفلام، بل ومسرحيات هذا العام هو وجود التشاركية في التأليف للعمل الواحد، وهو ما يسقط الفردية للفن، إلا أنه -كما أرى- يسعى لتقديم”مسخا فنيا”، فالبداية له مؤلف واحد، أما وجود اكثر من مؤلف على “إفيشات العروض” فهذا لم يقصد به تقريبا في الفن، وإنما ابتسامات لكعكة المؤلف التي يحصل عليها، وكأنهم استغفروا على صانع البهجة الفنية اجره، والذي لا يضارع اجر راقصة داخل العمل، أو أجر ممثل من الدرجة الأولى، وكأن تدخل بعض الأفراد كالمنتج وكاتب السيناريو في توجيه العمل الفني على خشبة العرض قد أعطاهم الحق في القرآن أسمائهم كمولفين مع المؤلف الاصلي، وهذا وإن دل فإنما يدل على تسطيح الفن لصالح دراما الفنتازيا الهزلية،التي تجذب الجمهور من أجل المتعة فقط، رغم تواضع وبساطة وسطحية العمل ، رغم وجود أكثر من مؤلف له، بل اكثر من مخرج ومساعد، ناهيك عن أن العمل ليس له وجودية من قبل، فقد يجلس الجميع في سهرة عامة، أو خاصة ويجتمعون على تقديم مسلسل، ويتم توزيع الأدوار، من قبل المنتج، ويشير للمؤلف، أو السيناريست بأن يضيف إلى جانب اسمه فلانا، أو فلانة، لتلميعهما من جهة، أو أنهما سيساعدان السيناريست في تقديم رؤى حداثية تجريبية-تخريبية- جديدة، لكن مع تواضع الذوق الفني العام، أو توجيه العمل الفني إلى وجهة خاصة، تم وضع شركاء التأليف ليغيب هارموني الإبداع والقيمة، لصالح توجيه ذائقة الجمهور، أو تعميته، وهذا جريمة في حق الفن، ولكن لا رقابة في ظل حرية الفن، أو الفوضى الفنية الخلاقة ، كما أرى.
ومع ذلك وجدنا أعمالا جادة تشارك فيها مبدعون ومؤلفون -حقيقيون، ولكنهم ارتقوا بمشاركة التأليف، خارج ناموس الإبداع، وقوانين فرادة الفن لصالح القيمة المادية المغرية، من جانب المنتج، أو لأن المخرج الكبير سيقوم بإخراج عملا ما لفلان غير المشهور، وهنا عليه أن يتنازل حتى عن مشروطيات الفن لصالح الشهرة، أو التمثيل إلى جانب ممثل كبير، وغير ذلك. فكم من ممثل لم يأخذ أجره، لأنه اكتسب شرف الوقوف أمام الممثل القدير المشهور.
ولعلنا سنشير هنا لبعض الملاحظات التى تحدثنا عنها سلفا من خلال تناولنا للعروض التي ستقدم في دراما رمضان هذا العام ، وهنا نقدم ملاحظات أولية على شكل العروض، ولا نحكم عليها بالطبع لأنها لم تعرض بعد، لكننا نتحدث عن ثيمات وسمات رأيناها في عروض الأعوام المنصرمة، ونشر إليها، أما الحكم على جودتها، أو اخفاقها التكتيكي الفني فهذا له مجاله في النقد الفني فيما بعد.