فراسة وحكمة: كيف أثرت نصائح الفتاة على حياة موسى عليه السلام
قال ابن مسعود: “أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلاَثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِين تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ فَاسْتَخْلَفَهُ، وَاَلَّتِي قَالَتْ: اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ، وَالْعَزِيزُ حِينَ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ” (ابن أبي شيبة برقم 37059، وهو صحيح).
فما الذي دفع موسى إلى أرض مدين حيث وجد الحكمة والحياة الجديدة؟
كان موسى يعيش في مصر، وبينما هو يسير رأى رجلين يقتتلان؛ أحدهما من قومه “بني إسرائيل”، والآخر من آل فرعون. عندما استغاث الإسرائيلي بموسى، دفع المصري بيده فمات على الفور. قال تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِين) [القصص: 15].
في اليوم التالي، تشاجر الإسرائيلي مع رجل آخر فاستغاث بموسى مرة ثانية. قال له موسى: “إنك لغوي مبين”. وعندما كشف الإسرائيلي عن سر قتل المصري، علم فرعون بالأمر، فجاء رجل يحذر موسى فهرب من مصر إلى أرض مدين قائلاً: (رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص :16].
في مدين، وجد موسى بئرًا يسقي منها الرعاة، ورأى امرأتين تمنعان غنمهما من الماء استحياءً من مزاحمة الرجال. ساعدهما موسى في سقي الغنم، ثم جلس تحت شجرة يناجي ربه: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24].
عندما عادت الفتاتان إلى أبيهما بسرعة، أخبرتاه عن موسى، فطلب منهما دعوته. جاءت الفتاة إلى موسى تمشي على استحياء لتبلغه دعوة أبيها: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 25].
بفراستها، اقترحت الفتاة على أبيها استئجار موسى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الأَمِين) [القصص: 26]. اقتنع الأب وعرض على موسى الزواج من إحدى ابنتيه مقابل أن يعمل لديه ثماني سنوات أو عشرًا: (إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَى وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص :27-28].
وهكذا عاش موسى في مدين عشر سنوات، ثم عاد إلى مصر مصحوبًا بزوجته. كانت زوجة موسى نموذجًا للمؤمنة ذات الفراسة والحياء، وكانت قدوة في اختيار الزوج الأمين العفيف.