د. حسن أحمد حسن يكتب: إعادة العلاقات السورية ــ التركية خارج صلاحيات أردوغان
بعيداً عن حمى القص واللصق وتناقل أخبار منسوبة لمصادر إعلامية ووكالات أنباء رسمية عن لقاءات سورية ــــ تركية على أعلى المستويات، فمصداقية أي حديث من هذا النوع مرهونة بما ينشر في الإعلام الرسمي السوري الذي لم يسبق له بوسائله المتعددة المرئية والمسموعة والمكتوبة أن نشر خبراً وتبين أنه غير دقيق، وهذا يعني أن أهدافاً أخرى تكمن وراء تسريبات لأخبار مهمة سرعان ما يتضح أنها غير دقيقة، وأن ما يتم تداوله في وادٍ، والواقع الحقيقي في وادٍ آخر، وبالتالي لا يستبعد أن تكون عملية نشر الأخبار جزءاً من آليات قياس ردة الفعل والتداعيات المحتملة، ومحاولة لاستقراء الحدود التي يمكن أن تتم المناورة فيها، ولا داعي لمفاصل صنع السياسة في هذه الدولة أو تلك أن تجهد نفسها للحصول على هكذا تفاصيل، فمحددات السياسة السورية واضحة ومعلنة، ومن المسلم به أن الدولة السورية لا يمكن أن تقدم على تغييب متعمد للرأي العام السوري عند اتخاذ قرارات إستراتيجية أو مفصلية في ملفات شائكة تتجاوز بتداعياتها المحتملة الجغرافيا السورية، بل والساحة الإقليمية، وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من الأفكار المهمة والعناوين التي يجب أن تبقى على طاولة التشريح لتوضيح الصورة، ومنها:
• استحالة الجمع بين الاحتلال بكل مظاهره ومفرزاته وبين الدعوة للتعاون وإعادة الدفء للعلاقات بين أي طرفين، والخطوة الأولى التي يمكن البناء عليها لا يمكن أن تخلو من الإعلان الرسمي والتعهد المسبق بالاستعداد للعمل على إنهاء الاحتلال على أقل تقدير، وبغير ذلك تبقى الأمور ترفاً رغبوياً غير قابل للتبلور على أرض الواقع.
• ذريعة مكافحة الإرهاب من دون تحديد مكوناته لم تعد سلعة قابلة للتداول لأنها فقدت صلاحية الاستخدام، فالشهور والسنوات الممتدة للعام الثالث عشر على التوالي كانت كفيلة بتمزيق كل الأقنعة المستخدمة بمستوياتها المتعددة، وإذا كانت الحاجة قائمة ودائمة لمحاربة الإرهاب، فعلى من يرفعون شعار محاربته الاتفاق على تحديد مكوناته ومندرجاته، ومن غير المقبول تصنيف مكون ما بأنه إرهابي، ومكون آخر بأنه ليس كذلك طالما الممارسات واحدة لكليهما، ولا يوجد شيء اسمه “إرهاب حلال” وآخر “إرهاب حرام”، كما لا يوجد شيء اسمه نصف إرهاب وربع إرهاب، أو إرهاب كامل، أو إرهاب ونصف، فالإرهاب مرفوض بكل أشكاله ومسمياته، ولا يمكن تنسيق محاربته إلا بتحديد المكونات المستهدفة بذلك.
• امتداد الحدود السورية ـ التركية قرابة/900/ كم يشكل تحديات مشتركة للجانبين طالما أن العلاقات مقطوعة أو متوترة، كما أنه يشكل فرصة ثمينة للجانبين للتعاون المثمر وفي أجواء إيجابية تولّدها العلاقات الجيدة بشكل تلقائي، فالإرهاب يستطيع الانتقال من جهة إلى أخرى وضمان أمن الحدود حاجة ثنائية مشتركة، وهي حق وواجب لكلا الطرفين ضمن منطق القانون الدولي، وأعراف المجتمع الإنساني وقيمه، وأي كلام عن ضمان أمن الحدود لطرف، وبقائه في دائرة الخطر والتهديد لطرف آخر يبقى لغواً يساعد على تقوية الإرهاب وداعميه، وليس العكس، ولا يختلف عاقلان على أن عودة العلاقات الطبيعية والتعاون بين دولتين جارتين بينهما”900” كم من الحدود هو حاجة حيوية للجانبين، وهذه الحاجة لا يمكن تلبيتها بالتصريحات المعسولة التي تفتقر إلى مرتسمات على أرض الواقع، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
• التصريحات المتعددة للرئيس التركي تم نشرها عبر وسائل الإعلام التركية الرسمية، ومن بينها وكالة الأناضول، وبعضها تم نقله بالصوت والصورة، والقاسم المشترك بينها: الإعلان عن رغبة تركية بإعادة الدفء إلى العلاقات مع الدولة السورية الجارة، وهذا ما جاء على لسان أردوغان نفسه بقوله: “سنوجه دعوتنا إلى الرئيس الأسد وقد تكون في أي لحظة، ونأمل في أن نعيد العلاقات التركية – السورية إلى ما كانت عليه في الماضي”، وقد سبق هذا الكلام تصريحات أخرى أدلى بها أردوغان للصحافيين المرافقين له على متن الطائرة في طريق عودته من برلين، حيث قال: “وصلنا إلى نقطة أنه في اللحظة التي يتخذ فيها الرئيس بشار الأسد خطوة نحو تحسين العلاقات مع تركيا، فإننا سنبادر للاستجابة بشكل مناسب”.
• بعيداً عن نكئ الجراح، والنبش في الماضي القريب بقذاراته المتعددة من المهم التوقف عند تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ودلالاتها وخلفياتها بآن معاً، وهذا يولّد عدداً من إشارات الاستفهام الإنكاري الكبيرة، إلى جانب عدد من التساؤلات التي تفرض ذاتها على كل من يرغب بفهم الحقيقة، ومنها:
ـــــ من الذي بادر لتخريب العلاقات التي كانت أكثر من متميزة بين تركيا وسورية؟ وإذا كان المطلوب أردوغانياً العودة بالعلاقات إلى ما كانت عليه بالماضي، فهل هناك من ضامن ألا تعيد السياسة التركية التعبير عن رغبتها بالدخول إلى المسجد الأموي للصلاة فيه عنوة؟ وكيف يستقيم الحديث عن عودة العلاقات الثنائية الطيبة والجيش التركي يحتل مساحات جغرافية كبيرة في الداخل السوري؟
ــــ ماهي الخطوة المطلوب اتخاذها من السيد الرئيس بشار الأسد نحو تحسين العلاقات مع تركيا، ليبادر أردوغان للاستجابة بشكل مناسب؟ ولماذا خلت تصريحات أردوغان وغيره من المسؤولين الأتراك من أية إشارة لانسحاب الجيش التركي من الأراضي التي يحتلها، أو على أقل تقدير الإعلان عن الاستعداد للانسحاب كمقدمة للاتفاق على صيغة ترضي الطرفين وتساهم فعلاً في القضاء على الإرهاب، بدلاً من الاكتفاء بترديد شعارات وأقاويل ملَّها الشعب السوري، وثبت للعالم إنها ليست أكثر من اجترار لسردية باهتة وغير قابلة لقياس المصداقية والجدية؟
ـــ ماذا عن عشرات آلاف المسلحين الإرهابيين الذين يسرحون ويرتعون كما يحلو لهم بمباركة جيش أردوغان وحمايته، وإذا كان تمزيق العلم التركي قد أثار حفيظة المسؤولين الأتراك، فهل يحق لأولئك المسؤولين أن يتناسوا أنهم الجهة المسؤولة عن تقديم الدعم والرعاية لأولئك القتلة المأجورين، وأن السلطات التركية هي التي أمدت أولئك بما يحتاجون ليستمروا بشحذ سكاكينهم وحرابهم المسمومة لنحر الدولة السورية؟ … على الأتراك وغيرهم أن يكونوا على يقين أن من استمرأ تمزيق علم وطنه لن يتردد في حرق أي علم آخر، فهل من متعظ؟ …
• قد يكون من السذاجة التفكير بأن إعادة العلاقات التركية ــ السورية أمر ذاتي يخص الدولتين فقط، فالمنطقة بكليتها جبهة اشتباك بين مشروعين متناقضين بالضرورة والصيرورة: مشروع هيمنة وتفتيت وتشظية لخدمة الكيان الإسرائيلي ضمن مشروع أكبر لاستعادة السيطرة الأمريكية على الكون، ومشروع مقاوم خلق النواة الصلب القابلة للبناء عليها والاستثمار في إمكانيتها من قبل بقية القوى العظمى التي رأت في إنجازات محور المقاومة ما يصلح كمقدمة لكسر الأحادية القطبية، كما وصلت حكومة الظل الكونية إلى قناعة بحتمية الخسارة إذا سمحت بامتداد ألسنة اللهب وتحول ما يجري في غزة وبقية جبهات الإسناد إلى حرب كبرى مفتوحة على شتى الاحتمالات والسيناريوهات، ولا ضامن لإمكانية إحراز النصر.
• ارتباطاً بالفقرة السابقة، وبما يساعد على فهم التبدل الآني في الموقف التركي المعلن يمكن القول: تركيا ما تزال رأس حربة الناتو، وإقدام أردوغان على خطوة حساسة ومهمة كالإعلان عن إعادة العلاقات مع سورية لا يمكن استيعابه إلى ضمن التنسيق مع واشنطن لضمان بقاء الاشتباك مضبوط الإيقاع في جميع الجبهات، لأن اشتعال أي جبهة يهدد بإمكانية التدحرج القابل للخروج عن السيطرة، ولا مصلحة لواشنطن في ذلك الآن.
• الدور الروسي مهم ولا يمكن القفز فوقه، وما يحدث يؤكد القناعة بأن لا مصلحة لموسكو بمزيد من الاحتكاك فوق الجغرافيا السورية، كما لا مصلحة لتركيا أيضاً، وإذا أضفنا إلى ذلك حرص إيران على إبقاء البوصلة متجهة نحو المواجهة الأم مع الكيان الإسرائيلي، وضرورة الاستثمار في العلاقات الجيدة مع تركيا، عندها يتضح أن الموقف التركي ما هو إلا صرخة أولى في آلام مخاض مؤلم للجميع، والحرص على استقبال مولود جديد يتطلب المزيد من العض على الجراح، وحتى رش الملح على الملتهب منها رغم الآلام المبرحة.
• قصر المدة الزمنية التي تفصل إدارة بايدن عن الانتخابات الرئاسية يفرض بعض التغييرات في سلم الأولويات مع الحفاظ على بقاء المنطقة بعيدة عن الاشتعال، وبعيدة عن إيجاد مخارج وحلول، وهذا الوضع هو الأنسب لواشنطن الداعمة لكل من قسد وتركيا بآنٍ معا، فلو كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مهتمة بإقامة كيان كردي لكانت سمحت لكردستان العراق بالتصويت على الانفصال ولكانت المنطقة في موضع آخر.
خلاصة:
عودة العلاقات السورية ـــ التركية إلى ما كانت عليه من إيجابية أمرٌ فوق طاقة أردوغان وإن توفرت الإرادة واليقين بأن ذلك يخدم المصالح التركية، فأنقرة ضمن اصطفاف عسكري وسياسي واستراتيجي، والخروج منه ممنوع على أية حكومة تركية، وآفاق أية تسوية مستقبلية مرهونة بنتائج المعركة الأم على الساحة الفلسطينية وفي قطاع غزة بالتحديد، وإلى أن يسفر الاشتباك الحاد عن مؤشرات لاقتراب الإعلان عن النتيجة ستبقى الورقة الكردية سيفاً ترفعه واشنطن بوجه تركيا وسورية والعراق وإيران، وأكثر ما يناسب صناع القرار الأمريكي اليوم يتمحور حول إبقاء الأمور معلقة وبعيدة عن الحلول، وفي الوقت نفسه بقاؤها بمنأى عن الاشتعال، مع التلويح ببعض المحفزات لهذا الطرف أو ذاك من وقت إلى آخر، ووفق مقتضيات الضرورة وتداعيات الميدان.