قراءة نقدية : اشراقات التصوف السيميائى فى” عمرة الدار ”
حاتم عبدالهادى السيد
نشأت الواقعية الاشتراكية نتيجة للمد الثورى للشعوب ، وقد ظهرت –فيما أحسب – ابان ثورة 1919م وحتى سطوع الناصرية وثورة 1952م ، وأحسب أن يوسف ادريس هو أبرز الذين أسسوا لها فى الأدب آنذاك ،غير غافلين – بالطبع عن كتاب آخرين أمثال : نجيب محفوظ ، احسان عبدالقدوس ، اسماعيل ولى الدين ، عبدالحميد جودة السحار ، محمد عبدالحليم عبدالله (فى ارهاصات كتاباته ) .
ويقينى أن د. /هويدا صالح فى روايتها : ” عمرة الدار ” هى امتداد لهذه الواقعية الجميلة ، التى أطّرت للريف والمجتمع المصرى -آنذاك- ،وانعكست آثارها على الابداع فى تلك الفترات المهمة فى تاريخ الدول والشعوب ، وأعنى فترات الصراعات والحروب والثورات، وا تبعها من تغييرات أطرت للحراك المجتمعى ، الا أن د./هويدا صالح قد غاصت فى تفاصيل واقع الريف المصرى بوعى وبحذر شديدين لتنقل لنا واقعية أحوال المصريين البسطاء فى الريف : عاداتهم ، معتقداتهم ، ثقافتهم الشعبية الفطرية ، تدينهم ـ وأساليب تفكيرهم كتصديقهم للحكايات عن الجن والعفاريت والأشباح التى تتلبس المرء فتتبدل أحواله ، وعبر المثيولوجيا الواقعية تظهر لنا ببراعة فى الوصف أحوال المتصوفة وأهل الذكر والطرق الصوفية الى جانب الأولياء والمداحين الشعبيين والسير الشعبية التى تصنع الذائقة الجمعية لمجتمعات الريف المصرى ، القديم والمعاصر .
انها عمرة الدار ، الروح المؤمنة التى تسكن المكان دون أن تؤذى السكان – كما تحكى الجدة للأطفال عنها ، وغير ذلك ن تفاصيل المكان البديعة .
لقد استطاعت الكاتبة أن تحيلنا الى سيميائية الريف عبر المعادل الموضوعى للواقعية السحرية ، الاشتراكية ، وتبدلاتها عبر أسلوبية تشويقية ، وسرد سلس جميل يدخلنا الى واقع الأحداث ، عبر تشاركية روحية – معايشة حياتية – مع التفاصيل التى تجيد سبك مبناها ، وتهذيب معناها القشيب ، فكأننا أمام هارمونتيكية للسرد بديعة ، فى ظل بناء معمارى شاهق للغة ، وعبر الراوى العليم الحاذق نراها تمازج بمهارة بين اللغة الفصيحة واللهجة العامية المصرية ، وتتقاطع عبر التناص ،والتضمين السياقى مع كتب التراث والمتصوفة : محيى الدين بن عربى ، السهروردى ، الحلاج ، ابن عطاء الله السكندرى ، وغيرهم .
وتبدو تنويعات السرد الشائقة من خلال تضمينها لأبيات شعر المتصوفة ، الى جانب المأثورات الشعبية التراثية كالحكم والأمثال وعالم الريف الشعبى ، حيث يحيلنا الواقع المجتعى عبر مسروديتها الى واقع سحرىسيميائى عبر علاقات الشخوص وتتابعيتها ،وجودة الوصف فى رسم الشخصيات المعبرة عن الأحداث لجو الريف المصرى المعاصر ، تقول : ( استيقظت الحاجة على نداء عمرة الدار ، توضأت وصلت ثم أحضرت مترد الخميرة التى ربتها فى الليل ، وجدت الخميرة فارت وزادت على حواف المترد ، بسملت ، وصلت على أبى فاطمة وكبتها فى الماجور الكبير ، وبدأت تدعك فيها الدقيق حتى تماسك ،بدأت ترفع قطع العجين وتضربها فىباقى العجين فقفزوا مسرعين فهم يعشقون يوم الخبيز .. ففى هذا اليوم يأكلون كل ما يحبون : أرز مدسوس فى الفرن وبطاطا مشوية فى جمر النار الذى يخلفه الخبيز ، وان أسعدهم الحظ تخرج لهم الحاجة الأرغفة مسلوقة لم يتم نضجها وتفرش فى وسطها القشطة والجلاب …. ذكرت اسم الله قبل أن تدب الرأس الحديدىفى التراب المتراكم من المرة الفائتة ، أبعدت التراب عن فتحة الفرن وأشعلت النيران ، ولم تنس أن تقول لساكنيه: ” لموا عيالكم النار جيالكم ” . سألتها الصغيرة بدهشة :
-هو فيه حد بيسكن الفرن ياجدتى ؟!!.
قالت : أيوه عمرة الدار . – وهى طيبة ياستى ؟
– أيوه بس مبتحبش حد يضايقها هيه وعيالها.
– ولنلحظ فى هذا المقطع كل ما أسلفناه عن دقة وجماليات السرد ، وانتقالاتها البديعة من الوصف الى الحوار ، الى الموضوع ، الى شكل الحياة اليومية للريف المصرى ، وحواديت الجدة وكلامها وحواريتها مع الجنية التى تسكن الفرن – عمرة الدار – وتساؤلات سلوى الصغيرة لها عن عيال الجنية ، وهل هى مؤذية ، وكيف تسكن فرن الخبيز وغير ذلك !! .
انه مجتمع المعرفة عبر الحياة التى تشكل المدرسة والجامعة ، فحفظ عمر لأبيات الشعر ، وترديدات عبدالرحيم ” المجذوب” عن الأنوار الالهية وغناؤه فى الحضرة لذلك الشعر الفلسفىالروحى يدلل الى معرفة وعلم عن طريق غير مباشرة ، ليس للمدرسة أو الجامعة فضل فيها ، وانما هى خبرة الحياة والواقع الأسطورىالمثييولوجى المحيط بعالم الريف الأخضر الجميل ، لذا تسعد عندما تسمع جمالية عبدالرحيم وهو ينشد من شعر المتصوفة الكبار :
جمالك فى كل الحقائق سافر وليس له الا جلالك سافر
تجليت للأكوان من خلف سترها فنمت بما تخفى عليه السرائر
وكذلك جسدت صورة المرأة فى الريف من خلال شخوص : الحاجة الكبيرة ، صباح ،فايزة ،دولت ، فردوس ، زبيدة ، الحاجة نفيسة ،وداد،صفية ، فاطمة ، نادية ، سناء ، نادية ، سلوى ، نورا ، الشيخة رابحة ” العرافة ” ، وفى هذا العالم النسائى نلمح كيد النساء ، ومشاجرات صباح وزوجها عنتر ، وعلاقة أولاد الخالة والعمة والتى تتراوح بين الحب والحقد ، والكيد والعشق ، وتدبير المؤامرات للفوز بالحبيب ، كما نلحظ فى روايتها تأكيدها على قوة المرأة الريفية وشهامتها ،ووقوفها مع زوجها فى كل الظروف ، وعدم الزواج بعد مماته ، باستثناء شادية التى كانت تحب أحمد قبل زواجهما فلما مات زوجها أرادت أن تعيد الحب القديم الى سالف عهده ، الا أن تنشأته الدينية ووفاءه لزوجته قد حال دون اغراءاتها التتالية .
انها حكايات مجتمع الريف بتفاصيله السيميائية السامقة قدمتها لنا / هويدا صالح كمؤرخة لتطلعنا الى هذه الشرائح المجتمعية الانسانية للبسطاء الذين يعيشون على هامش الحياة – كما نحسب – فاذا هم الحياة بكل تفاصيلها وفلسفتها التى تصل بين عالم الجسد والروح ،وتعكس ملامح الريف المصرى ببساطته ، وثقافته الصوفية ، وتدينه ، وقد نجحت الكاتبة فى سموق باذخ لاشراكالقارىءفى هذا العالم النوارنىالفطرى الجميل ، وقد عكست الرواية الواقعية حياة المصريين فى الريف المصرى القديم ، والمعاصر أيضاً .
انها الرواية الأكثر اشراقاً وانفتاحاً على المجتمع ، وقد استطاعت / هويدا صالح أن تكون امتداداً سامقاً للمدرسة الواقعية فى الابداع والتى أسسها عمالقة الأدب المصرى الحديث .