العبّاسة ديوان الإنسانية:
لقد أهدى ديوانه: «إلى الإنسانية»، وهى عبارة – وان كانت مقتضبة – إلا أنها دالة ومعبرة، فالإنسانية ليست كلمة كالكلمات، لكنها واقع مُعاش، حيوات في عمر المكان والسكان، تاريخ شعوب وحضارات وممالك، بدأ الخلق والتكوين: آدم وحواء، وصراع البشر على كوكب الأرض، رحلة القتل والظلم الإنساني، بسبب الطمع والجشع والاستحواذ على السلطة، المال والجاه والسلطان، صراع الأيديولوجيات والأمم والشعوب، القيم بمعانيها وزخمها، الإنسان وتاريخه منذ بدء الخليقة، رحلة الظلم والرهبوت مقابل العدل والحرية، الشعوب والحكام، المدن والقرى، المذاهب والعرقيات، الحب والكراهية، الاستعمار والسلام، التناقضات بكامل هيئاتها، حيث الملك والحاشية صراع ممتد على كل العصور، يقول (المُلكُ لهُ مَهرٌ فادحْ، لا يقبلُ إلا دَمنا، لا يرفَعُهُ إلّا قوسٌ وقَناةٌ، من منَّا يحملُ وِزْرَ أخيهِ ومن أجرى دَمَهُ؟ ووليُّ الدَّمِ فينا .. من ؟، من يملكُ ثَأَر أخيهِ ومنْ يَتَسامَحْ ؟ هلْ أَفسَدْتُكَ حينَ تركْتُكَ في مَمْلكَتي جباراً، فوقَ الدُّستورِ وفوقَ الأمَّةْ، أمَّنْتُكَ مُلْكِي يا هذا المُهْرُ الجَّامحْ، لا خاسرَ أو رابِحْ، رأْسُكَ هذا يا جعفرُ رأسي وقَطَعْتُهْ، لا يتساوى رأسُكُ هذا برؤوسِ كُثْرٍ يا مذبوحاً ذابِحْ، أبكيك … ؟ نعمْ.. والله ……. نعمْ، أسْفِكُ دمْعِي قِرباً دَمويِّةْ، وأكونَ القاتلِ والنَّائحْ، لكن لا أملِكُ أنْ أعفو، لا يمكنُ يا جعفرُ أن يغفرِ عرشي أو أنْ يَتَصالحْ). (الديوان ص:102-104).
زواج «العباسة» أخت هارون الرشيد على البركمي
يقول: (لو أنِّي أعلم أنَّ السيفَ إلى عُنُقِي، ونِكَاحَ العينين العاشقتين يرسِّخ، في دولتهِ كَذِبَه، أن رجولةَ جعفرَ يا أمَّهْ، إِنْ مسَّتْ جسد العباسة في حلٍّ، يَتَكسَّرُ عَظْمُ الرَّقَبَةْ، كنت كفرتُ بهارونَ رضيعا وخليفة، و قطعت ثُدِيَّكِ سمَّمْتُ رغيفه، كنتُ عقرتُ حِصَانَهْ، وحرقتُ العَرَبةْ كَسَّرتُ ذراعيهِ، عَبْدتُ الإثمَ، ومرتكبَه، كنتُ رسمتُ براحاً ومساحاتٍ، للخيلِ المصنوعة من ثأر يتخلٌقُ في الغيبِ القادِمْ، وصرفتُ الموج بعيدا عن باب، المندبِ عِنْدَ وما أدراكَ وتفسير، العقبة، كنتُ جعلت التاريخ الآثم لُعْبَتَنا، استعبدتُ الغالبَ والغلَبةْ). (الديوان ص:6-8).
ديوان العباسة يحكي عدل هارون وينتقض حاشيته
ولنا أن نلحظ أن الشاعر محمود حسن- هنا – يرفو قماشة اللغة ليصنع ثوب الشعرية المورفولوجى، عبر فونيمات الحروف التى تصنع جرساً للشجن يخشّ إلى ضفاف الروح، فاللغة لديه نهر ينساب، هارموني ينتضم عقد الصور الجمالية الباذخة المنسابة من فقه الجمال السّياقى، حيث اللغة المائزة، فنراه يتقصّد الشعريّة العربية ليعيد اقتصاديات اللغة المائزة عبر التراكم، والتقارن، والانزياحات التي تشكّل السياقات النصيّة الباذخة، فاللغة لديه شاهقة، لا تجد ترهلاً، ولا كلمة ليست في موضعها، بل أننا لوحذفنا حرفاً من الديوان لاختل البناء، بما يشي بأحكام الشاعرية من جهة، وحرصه على التأنق وكأنه يمكيج اللغة بطلاء روحه، ويضفي عليها غلالة من نور، يدخل إلى الروح فيرويها من نهر الجمال، كما أنه لا يستخدم لغة دارجة، أو الغازية، بل لغة بسيطة دافقة، وعبر التكثيف والتقصيد والتراكم، تجىء المعانى محمّلة بزخم جمالى وتاريخى وسياسي وإحالي، كما لا يستخدم التضمين في استدعاءاته، فقد استدعى شخصية الشاعر «أبو العتاهية» ليحدثنا عن دور الشاعر والمثقف الذي يقول كلمة الحق، فقط ربما لكونه أعمى، بينما الآخرين صمتوا، أو ركنوا إلى بلاط القصر ومداهنة الملك، لذا فإن أبو العتاهية هو شاهد التاريخ، المثقف الذي يكتب صفحاته دون مواربة، أو على الأقل بينه وبين ذاته والمقربين يصدح بالحق.
ديوان العباسة: أبو العتاهية ينصح هارون الرشيد
وقد يخشى كثيرون بطش الحاكم لكننا رأينا أبو العتاهية ينصح هارون، فيقول: إن نزلَ العَامَّةُ للشارعِ يا ولدي، سَتُباحُ حدُودُكَ قسراً، وتَميلُ المِئدنةُ الكبري، ويُدَكُّ المِنْبَرْ، وتري من نافقَ عرشكَ يُصْدر مانشيتَ صحيفتِهِ بالخطِّ المُتَضَخِّمِ والأحمرْ، سقطَ الطَّاغيةُ الأكبرْ، وَتُطِلُّ لِحىً كاذبةٌ مُنْتِنَةٌ، وحديثٌ موضوعٌ والتأويل المُتَأَخِّرْ، وجماعاتٌ تقفزُ للمشْهدِ حتَّى لكأَّنَ الأمَّةَ لُعْبَتُهمْ ويسافرُ في قلبِ الأمَّةِ خِنْجرْ، بِيَدِي، بِيَدِي أقْتُلُكَ الآنَ وأعلمُ أنَّ زمانا يأتي، تَتَكَسَّرُ فيه الدولةُ والهيبةْ، يَتَخَضَّبُ بابُ الهيكلِ، تبكي الصورةُ والعذراءُ وقلبُ يسوعٍ يَتَفَجَّرْ، ينفرطُ العِقْدُ ويُسْتَلَبُ المَتْجَرْ، ويقوم الولدُ الأمْردُ بين الناس حديثَ الأسنان خطيباً، لِيُسَفِّه رأي النُّعْمَانِ يَرُدَّ القاضي ويُكَفِّرَ شيخَ الأزْهَرْ. (الديوان ص: 64-66).
ديوان العباسة يحيلنا إلى الواقع العربي
ويقول:
(هذا زمنُ الغولِ وتاريخِ العنقاءْ، والدُّستورِ العاجز والقاضي المَفزوعِ ومحكمةٍ عرجاءْ. (الديوان ص: 91).
ولعله يحاول كشف المسكوت عنه، أو ما يسمى بفقه العامة، وتعمية الشعوب على مر العصور، يقول: (في كل زمان عرب بائدةٌ، عربٌ مُستعربةٌ عربٌ عاربة، رومٌ فرسٌ وهنودٌ حمرٌ و فراعنةٌ، هكسوس وتتارٌ عربٌ ويَماني، أديانٌ شتى ومذاهبُ تعبد أصناما زُلف، والقاتل شيخان. (الديوان ص:13:15).
إنها شيفرات المعادلة الإنسانية الكبرى التي أحالها إلينا محمود حسن في ديوانه التاريخي الأسطوري الشاهق، الذي يؤسس بامتياز لذوق شاعر يعرف التاريخ جيداً، ويستفيد منه لتجديد أواصر ودماء القصيدة العربية المعاصرة، ولعلنا نغمطه حقه إذا أطلقنا على كتابه هذا إسم “ديوان شعر” بل هو كتاب الإنسانية وتاريخها، الذي يسرد جانباً مظلماً في تاريخنا العربي، جانب الظلم الإنساني – المسكوت عنه – تاريخ الثورات العربية الكبرى عبر العصور، فالكل مدان، وهارون لم يكن ظالماً كذلك لكنه التاريخ السري للأمم والحضارات والممالك.
العباسة رواية تاريخية شاعرة
إن شاعرنا هنا يمسرح التاريخ، ويمازج – عبر النوعية- بين الفنون الإبداعية، ويشارك القاريء في خطابه التاريخي، سفره الذي يتوسله، إسقاطاته، ومعادلاته الموضوعية والضمنية، والرمزية لإضفاء واقع سحري للقاريء، وكأنه في جوقة المسرح والجمهور قد اخترق الحاجز الوهمي الرابع ودخل إلى اللعبة، العصر التاريخي ليعيش ويقارن ويتضام ويراكب – على حد تعبير سوزان سونتاج، أو أنه يعيد تأسيسية جديدة للشعرية العربية باستلهام القاريء وإشراكه كجزء من اللعبة التاريخية الشعرية الإحالية الترميزية، ليحيلنا إلى ذواتنا المقهورة، إلى الإنسان في أي زمان ومكان، لينفض الغبار عن ثوب الرهبوت، ويكسر القيود، ويحرر القضبان والسجون، من ظلم الاستبداد والاستعباد، حيث الحرية، وكسر ربقة الظلم وغلالته السميكة، ورفع الغشاوة عن عين العامة لتبصر اليقين، وتنحو إلى النور والحرية، تستعيد كرامتها المهدورة، المهراقة، عبر العصور التاريخية، وحتى واقعنا العربى الآن، يقول: (ما أقبحَ أن يصبِحَ لَـثْمُ القدَمِ الملكيةِ أفيونَ الشَّعبِ المتغَيِّبِ قسراً وحَشِيشَه). (الديوان ص: 31).
وكذلك ما جاء على لسان الجارية “من عامة الشعب، وهى فى شرفات القصر” تقول:
(في القصرِ خمورٌ ونساءٌ عاريةٌ، وفُجورٌ، وغناءْ، وسُجودٌ وقيامٌ وصيامٌ وقِراءةُ قُرْآنٍ وبُكاءْ، في القصرِ العِزَّةُ والذِّلَّةْ، وملابسُ مُتَّسِخاتٌ وأناقَةُ حُلَّةْ، في القصر شياطينٌ رُسلٌ وملائكةُ خُبثَاء، لو أنَّكَ يا هارونُ ابنَ المهْدِيْ، لم تَفْتِنَ عقلكَ جاريةٌ من كِسْرى، ولَدَيْكَ زُبيدَةْ، ما سالتْ في القصرِ دماءْ، لو أنَّكَ يا جعفرُ لم تَفْتِنكَ امرأةٌ من ساداتٍ عربِيَّةْ، لو أنَّ العبَّاسةَ ظَلَّت عذراءْ، ما انهدَّ السدَّ، ولا كَفَرَتَ بِلْقِيسُ، ولا ذُبِحَتْ صنعاءْ. ( الديوان ص:44-45).
وما بين شخصيات الرواية المسرحية الديوان كتاب التاريخ الشعري، الكتاب السياسي، الإجتماعي، التاريخي القديم المعاصر، نستطيع أن نطلق عليها ما نشاء، تتعدد الشخوص، الأحداث، الحكايات والمتوالية السردية القصصية الشاعرة، فنرى تداخل الأزمنة والعصور عبر دلالات المرويات التاريخية على لسان أبطال الرواية الشاعرة، القصة التاريخية بامتياز التي تستدعيها شخصيات الرواية الشعرية، ولنلحظ أسلوبية اللغة عبر المشهدية التراجيدية التي يستدعيها، عبرالشخصيات: هارون الرشيد، العباسة، جعفر، يحيى، زبيدة، الجارية برّة، عصماء، الخيزران، أبو اسحاق “الشاعر أبوالعتاهية”،الوزير يعقوب، الجنود، الحراس، الدهماء “عامة الشعب”، نستطيع أن نقرر بأننا أمام منظومة حياتية ممتدة، فهارون الحاكم، الرئيس، الملك، السلطان، الخليفة، تتجدد مسمياته بتجدد العصور، والعباسة هي الرمز للجريحة، المغدورة، المعذبة، الشعب، وحاشية كل العصور، والسلطات بمختلف أنواعها، لتختلط الأزمنة بالأمكنة، عبر أسطرة التاريخ، ولا حتميته كذلك، ولكنها صور مستنسخة للإنسان – شريحة المستبّد –، الشعوب ومعاناتها، الصراع من أجل البقاء وحكم الرقاب، الاستبداد والاستعباد العربي، العالمي الكوني، الأممي، صراع الحضارات، الاستعمار والهيمنة، القطبية، الكوكبية، التمدد والغزو، المحو بإسم تغليب المذهب والعقيدة والجنس واللون والشكل، وغير ذلك مما تستدعيه أسطورة العبّاسة، المرأة المغدورة المطعونة في أبسط حقوقها الزوجية والحياتية والمجتمعية، والشعب البائس الذي يعيش في غلالة الدولة والعقد الشرعى.
يقول:
من يعبثُ في البَيْعَةِ يعبثُ في الجِلبابِ السَّاتِرِ يفضحُ عوراتٍ مُخْتَبِئةْ، ويثورُ الشعبُ المَيِّتُ من مائتَيْ عامٍ، والجُنْدُ المتَخاذِلُ والدَّبَّاباتُ الصَّدِئَةْ. ( الديوان ص:60) .
يقول في الخاتمة:
ثم تجيء خاتمة الكتاب فنراه يسقط ذلك كله على واقعنا الآن، وكأنه يخاطب الحاكم، الرئيس السلطان، فنراه يقول – على مضض – على لسان جعفر: (ما خُنتُكَ يا صِنْوَ رضاعي وصبايَ، ما أخلفتُ العهدَ ولا بِعْتُكَ يا مولايَ، لكنْ حينَ يضيعُ الحقُّ الإنسانيْ، ومذاهبُ شعبِكَ تُكْتَبُ في الرَّقمِ القوميْ، تمتازُ جماعةْ، تَنْداحُ جماعةْ، فَتُشَقُّ الدَّولةُ جُزْأينِ وأجزاءً صُغرى، يَقْتَتِل السُنّيّ مع الشِّيعيْ، والعربيُّ مع العربيْ، كسرى يذبحُ قيصرَ .. قيصرُ يأكلُ قلبَ نجاشيْ، يا عَبَّاسةُ هل تبكينَ الآنَ عليَّ دَما، يا أطهرَ ما في هذه الأرضِ الحبلى بالشَّرِّ الأعمى. (الديوان 117:116).
ثم ياتى صوت تأنيب الضمير ، صوت المظلوم / الظالم، المغدور/م الغادر ،صوت جعفر ، صوتنا، الضمير الانسانى ، يقول :(حاول أن تغفوَ يا هارونُ قليلاً..لا..لا.. لا/ لن تغفُوَ بعدَ الآنْ/فأنا حولكَ في كلِّ زمانٍ ومكانْ/مقطوعٌ رأسي في حجْرِكْ/ودمائي تَتَدَفَّقُ في دِجلةَ والنيلِ وكَفْرِ حَرَسْتا/في بابلَ والبصرةِ والهِرْسِكْ/في مدخلِ بغدادَ على بابِ التَّاريخِ الدَّمَوِيْ/حتَّي إن مرَّ قراصِنَةٌ وجيوشٌ/مدفوعٌ قيمتها سَلفا/سيقولُ التاريخُ بأعلى صوْتِه/هذا المصلوبُ نَبِيْ).الديوان ص:122:120).
وفي النهاية:
أننا أمام العبّاسة وحسب، سفر يتوضأ بالوجع الزاعق في بريّة السكون والعتمة بحثاً عن بصيص ضوء يأتي من نهاية نفق خانق، يأخذ بالرؤوس والعناق، يلوي عنق الحقيقة، يعارك الحرية في بذخها وهيبتها، يطعن الآخر في صمت، شهادة حق على ذوات مقهورة، رمز في جبين العالم النازع نحو الحرية والعدل الإنساني البعيد، يجيء ويذهب، ولكنه يستشرف الحلم بثورة الذات، الشعوب، استيقاظ المارد العربي من جديد، عودة الفلاح للأرض، الفأس، لا يلوث نهراً، ولا يسطو على جارة منزله، ولا ينتهك حرمة الآخر، حقه في الحياة في أمان وسلام.
ترقد العباسة الآن سعيدة، تتلقى مولودها الجديد، حلمها الأسمى، لتضمد وجعها الأشهى بفراق جعفر، لتستقبل هارون البرمكي، الآخر المحب، الزاعق في برية العتمة بالضوء السيموطيقي المتلألأ الجميل.