عائلات مصرية

عرب خلدة بين البداوة والاستقرار في لبنان.. حكاية هوية تتغير دون أن تنكسر

لم تعرف الأراضي اللبنانية استقرارا واسعا لقبائل العرب إلا في مرحلة متأخرة نسبيا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ اقتصر وجودهم قبل ذلك على مجموعات محدودة العدد، كانت تعتمد على تربية الماشية والتنقل الموسمي بين المناطق بحسب فصول السنة، ومن أبرز هذه القبائل الزريقات الذين استقروا في جرود وسهول منطقتي عكار والضنية، والعويشات في وادي خالد وأكروم على الحدود السورية اللبنانية، والعتيق وهم إحدى فرق قبيلة النعيم ويتمركزون بين أكروم ووادي خالد، إضافة إلى الغنام في وادي خالد، والجعافرة بين أكروم وجرود الضنية، إلى جانب قبائل أخرى مثل اللهيب والأرامش واللقلوق والدنادشة التي توزعت في مناطق متفرقة.

تاريخ عرب خلدة

ويشكل سكان منطقة خلدة الواقعة جنوب العاصمة بيروت حالة خاصة بين عرب لبنان، إذ يطلق عليهم اسم عرب خلدة تمييزا لهم عن عرب المناطق الأخرى، وكانت ملكية معظم أراضي خلدة تعود إلى العرب من فخذ النوافلة من آل نوفل التابعين لقبيلة الزريقات، وقد تفرعت عن هذا الفخذ عائلات عدة مثل آل ضاهر وعسكر وشاهين وغصن وحصل بعض أبناء هذه العائلات على الجنسية اللبنانية خلال إحصاء عام 1932، بينما شمل التجنيس آخرين في عهد رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 1994، ويفتخر هؤلاء بأن أرقام قيودهم في سجلات النفوس تتراوح بين الرقم واحد والرقم سبعة، في دلالة على عمق جذورهم وانتمائهم التاريخي إلى المنطقة.

في أحد منازل حي العرب في خلدة، تستقبلنا أم عارف، وهي امرأة تجاوزت الثمانين من العمر، ما زالت ذاكرتها تحتفظ بتفاصيل حياة لم يعد لها وجود اليوم، تحكي عن سنوات مضت فتقول إنهم كانوا يقضون فصل الشتاء في خلدة، ومع بداية الربيع يرافقون الماشية نحو المناطق الجبلية، حيث ينصبون بيت الشعر المصنوع من جلد الماعز، وهو رمز أساسي في حياة العشائر العربية ومركز للعلاقات الاجتماعية والعائلية، كما يوفر الحماية من الحر والبرد، وخلال النهار كان الرجال يخرجون مع القطعان إلى أراض يدفعون لأصحابها بدلا مقابل رعيها.

وتوضح أن العائلات كانت تربي الأبقار والماعز أكثر من الأغنام، لأن الأغنام تحتاج إلى مياه كثيرة وتتعرض للتعب بسرعة، إضافة إلى تربية الدواجن والطيور، أما الزراعة فاقتصرت على الشعير والكرسنة والذرة لاستخدامها علفا للمواشي، إلى جانب القمح والعدس والبامية الخضراء للاستهلاك المنزلي والبيع، وتشير أم عارف إلى أن النساء تولين شؤون المنزل وتحضير الطعام الذي اعتمد في معظمه على مشتقات الحليب، وتذكر من الأكلات الشعبية الحليب المغلي مع الذرة المجروشة، والمليحة المصنوعة من اللبن والماء مع الأرز والعقدة الصفراء.

ولم يقتصر دور النساء على الطبخ فقط، بل شاركن أيضا في الزراعة والحصاد وحلب الماشية وجلب الحطب وتربية الأبناء، كما كن يذهبن لقطف الأعشاب البرية مثل الهندباء والزعتر، لكن ضمن حدود ممتلكات العشيرة فقط، لأن العمل خارج هذه الحدود اعتبر عيبا لا يليق بالمرأة.

مع مرور السنوات تبدلت حياة عرب خلدة بشكل جذري، فتخلوا عن تربية الماشية واستقروا في منازل ثابتة. وفي تسعينيات القرن الماضي، شقت الدولة اللبنانية طريقا سريعا يمر في منطقة خلدة، ما اضطرها إلى شراء مساحات واسعة من أراضي العرب بأسعار مرتفعة، وهو ما ساعد على انتقالهم من حياة الخيم إلى حياة الاستقرار. فشيدوا الأبنية الحديثة واستبدلوا بيوت الشعر بمنازل واسعة، وأنشأ وجهاء العشيرة ديوانيات كبيرة يجتمع فيها الرجال، بينما حصروا وجود النساء خارج هذه المجالس.

ولم يبق من مظاهر الحياة القديمة سوى بعض القطع التراثية التي تحولت إلى زينة داخل البيوت الحديثة، ففي منزل أم عارف ما زال المهباج الذي استخدم قديما لطحن القهوة محفوظا للذكرى، كما علقت محمصة قهوة على أحد الجدران. ومع الزمن اختفت اللهجة العربية القديمة إلا عند قلة قليلة، كما تخلى معظم الرجال عن اللباس التقليدي مثل الحطة والعقال.

وتظهر ملامح التداخل بين الماضي والحداثة في الأعراس، فبينما ما زال بعضهم يقيم حفلات الزفاف في ساحة الحي، يفضل آخرون الاحتفال في صالات مغلقة، أما تقاليد الطبخ في الأعراس فبقيت على حالها، إذ يقدم رب إحدى العائلات هدية قبل ليلة الزفاف تتمثل في رأس ماعز، وتعد هذه الهدية دينا يرد لاحقا في عرس أحد أبناء العريس، وخلال الغداء يوضع رأس الماعز المطهو أمام رب العائلة الذي قدم الهدية، في تقليد يعرف بقاعدة الرأس للرأس، بعد أن تكون نساء العشيرة قد تعاون في تحضير الطعام من الأرز واللحم والمليحة.

وتشير أم عارف إلى أن الزواج داخل العشيرة كان أولوية مطلقة، وخصوصا بين أبناء العمومة، وإذا تقدم شخص من خارج العشيرة للزواج من فتاة، يجمع والدها أبناء عمومتها ويسألهم إن كان أحدهم يرغب بها زوجة، ولا يؤخذ برأي الفتاة في هذا القرار.

من جانبه يؤكد أبو محمد من عرب خلدة أن سلطة العشيرة ضعفت بشكل كبير، إذ نجحت الأحزاب والزعامات السياسية في تفكيك نفوذها، ولم تعد كلمة الشيخ تجمع الجميع كما في السابق، بل باتت كل عائلة تعلن ولاءها لزعيم أو حزب يضمن لها الحماية والمصالح وتأمين الوظائف لأبنائها، كما أدى تملك الأراضي بشكل فردي إلى بروز طموحات زعامية داخل العشيرة، ما ساهم في كثرة الديوانيات وتراجع وحدة القرار.

ويضيف أن هذا الواقع عزز العصبيات العائلية على حساب العصبية العشائرية، بعدما كانت الديوانية التي عرفت قديما باسم الربعة تشكل مركز اتخاذ القرار في قضايا الثأر ودفع الديات وحل النزاعات والطلاق، ويشير إلى ظهور ديوانيات خاصة بالنساء في الوقت الحاضر، على غرار ما هو معمول به في دول الخليج.

أما جيل الشباب في خلدة فيعاني في معظمه من البطالة، إذ تعتمد شريحة واسعة منهم على عائدات إيجار الشقق والأبنية من دون السعي إلى العمل، كما لا تحظى مسألة التعليم باهتمام كبير، إذ لا يتجاوز عدد الجامعيين أصابع اليد الواحدة،  ويرفض كثير من الشباب فكرة شيخ العشيرة ولا يلتزمون بقراراته، معتبرين أن السلطة التقليدية التي اعتمدوا عليها سابقا فشلت في تأمين فرص العمل والحياة الكريمة لهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى