روسيا استيقظت والحرب بدأت.. وأوكرانيا نحو الأفول!
روسيا استيقظت والحرب بدأت.. وأوكرانيا نحو الأفول!
بقلم سماهر الخطبب
شكلت العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس مرحلة جديدة في تاريخ العالم الحديث إتسمت بمفاهيم جديدة ومع وصول هذه العملية الخاصة إلى تاريخ التوقيع على إنضمام دونيتسك ولوغانسيك وخيرسون وزاباروجيه إلى الإتحاد الروسي والذي سبق الإنضمام وفق إستفتاء شعبي في تلك المناطق سبقه إعلان التعبئة الجزئية ما يعني الإنتقال من مرحلة العملية الخاصة إلى مرحلة الحرب استعداداً للحرب الشاملة، وعندما أشرنا في مقال سابق عن غموض بوتين الإستراتيجي بأن الحرب لم تبدأ بعد، مشيرين فيه إلى نتائج تلك العملية وارتداداتها على الغرب خاصة والعالم عامة، منوهين إلى أن كل تلك التداعيات وهي لا تزال عملية خاصة فكيف الحال إذا فتح بوتين خزائنه وبدأ الحرب فعلاً!
ومع دخولنا شهر تشرين الأول/ أوكتوبر دخلنا معه مرحلة الحرب وهي ليست حرب روسية – أوكرانية إنما حرب روسية – غربية بمعنى أنّ ما بات يحدث الآن في أوكرانيا هو حرب بكل ما للكلمة من معنى ولم يعد هناك عملية عسكرية خاصة.
وإذا أردنا الدخول في مفهوم “الحرب” فإننا نفسّره وفق مناحٍ عدة منها توجيه الصواريخ نحو الأراضي الروسية من قبل حلفاء أميركا الأوكرانيين أو الأوروبيين، وهنا لا يهم من يقاتل بالأسلحة الناتوية ما يهم أنها أسلحة غربية موجهة ضدّ روسيا وهذا يندرج ضمن مفهوم “الحرب”، كذلك عندما يتم استهداف محطة زابروجيه النووية فيمكن تفسيره حينها أنه محاولة لتوجيه ضربة نووية إلى روسيا، أيضاً يندرج ضمن “الحرب”، واستهداف خط غاز “نورد ستريم” يفسّر بأنه ضربة للأقتصاد الروسي – الغربي أيضاً يندرج ضمن مفهوم “الحرب”، مع العلم أنّ كل الأدلة تشير إلى قيام الولايات المتحدة بتفجير الخط في مساعيها لمنع الأوروبيين من الإعتماد على الغاز الروسي، كما أنّ الإنفجار تزامن مع تباهي الناتو على “تويتر” باختبار أنظمة جديدة غير مأهولة في البحر.. وترافق الإنفجار مع شكر وزير الخارجية البولندي السابق راديك سيكوريسكي الولايات المتحدة على الحادث الذي وقع مع نورد ستريم كما سبق وأن هدّد الرئيس الأميركي جو بايدن بتفجير خط غاز نورد ستريم 2.. وغيرها من الأدلة الدامغة.
بالتالي الحرب الحقيقية بدأت فعلاً ما بين روسيا والجماعة الغربية (أميركا – أوروبا) بعد أن تجاوزت القوى الغربية جميع الخطوط الحمراء التي حذر منها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وضعه الغرب وأميركا بدعمهم لـ “النازيين” في كييف أمام خيار وحيد لا رجعة فيه وهو المواجهة حتى النهاية.
ومن هنا كانت الخطوات الأولى لإعلان الأحكام العرفية والتعبئة في الشيشان، وفي شبه جزيرة القرم، لتكون في مناطق أخرى أيضاً، خاصةً المناطق الحدودية.
وفي تحليل لخطوات بوتين الإستراتيجية والتي تتسم بالمرونة وقابلية التعديل وفق المتغيرات الخارجية بعيداً عن التعديلات بالأهداف الرئيسية وإنما بالمسارات للوصول إلى الأهداف، فيبدو أن النموذج النظري الذي اقترحه تشارلز ف. هيرمان من أبرز النماذج العلمية والأكثر ملاءمة لمحاولة فك تشفير السياسة الخارجية الروسية وتغييراتها في ظل إدارة الرئيس فلاديمير بوتين.
يقوم هذا النموذج على أن التغيرات التي تطرأ على
السياسة الخارجية، أو تحسين أهداف تلك السياسة المعينة، والذي يقصد به التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية لدولة ما على مستوى أهدافها الفرعية. والتغير البرنامجي، الذي يطرأ على مستوى أدوات تنفيذ السياسة الخارجية. والتغير الإتجاهي، وهو أكثر الاشكال تطرفاً في التغير وذلك من خلال التغير الذي يطرأ على السياسة الخارجية على مستوى أدوات تفنيدها وأهدافها ففي مثل هذه الأحداث، تعيد الدول توجيه نهجها بالكامل في الشؤون العالمية.
مخططات هيرمان هي أداة تهدف إلى فهم الأسباب التي تدفع الحكومات إلى إعادة توجيه سياساتها الخارجية، على هذا النحو، فإنه يناسب هذا التحليل، بالنظر إلى أن السياسة الخارجية لروسيا شهدت العديد من عمليات إعادة التوجيه المفاجئة في تاريخها الحديث، وتزامنت بعض هذه التغييرات مع تعديل جذري للنظام السياسي للبلاد، وتوافق البعض مع التغييرات في الإدارة، وبعضها – تلك التي تهمنا أكثر – حدثت في ظل إدارة قائمة، وتحديداً حكومة فلاديمير بوتين.
أما عوامل التغيير بحسب هيرمان، فهي: الزعيم السائد، والدعوة البيروقراطية، وإعادة الهيكلة المحلية، والصدمات الخارجية. ومن الواضح أن عوامل تغيير السياسة الخارجية هذه ليست حصرية بشكل متبادل، ولكي تحدث إعادة توجيه السياسة الخارجية، غالباً ما يكون هناك حاجة إلى التفاعل بين بعض أو كل مصادر التغيير هذه. على سبيل المثال، يمكن لصدمة خارجية تفعيل مبادرة يقودها القادة لتغيير مسار السياسة الخارجية.
ويبدو أن التغيير ينبع دائماً من الفشل. وهذا يعني أن إعادة توجيه السياسة الخارجية تمليه الإدراك بأن السياسة الفعلية لا تعالج بشكل صحيح المشاكل التي حددتها لحلها، أو أنها لا تحقق الأهداف التي كان من المفترض أن تحققها.
إنّ خصوصية نموذج هيرمان وعمليته هي التي تجعله أداة أكثر جاذبية لدراسة السياسة الخارجية لروسيا. وتطبيق نظرية هيرمان على حقائق السياسة الخارجية الروسية ليس حقيقة تجريبية بأي حال من الأحوال، بل محاولة لإيجاد نهج نظري أنسب لشرح السياسة الخارجية الروسية، وتحديد تأثير مجريات الحرب التي بدأت في أوكرانيا كـ “صدمة خارجية” تفاعلت مع مبادرة يقودها القادة لتغيير مسار السياسة الخارجية وتغيير الأهداف التي كانت قبل العملية العسكرية الخاصة شيئ وبعدها باتت شيء آخر وربما تقود هذه التغييرات في الأهداف إلى تغييرات في الخارطة الجيوسياسية والجيوبولتيكية للعالم أجمع.
كما أنّ هناك ثلاث مراحل جيوسياسية في التاريخ الروسي الحديث. الأولى هي التسعينيات، مع انهيار الاتحاد السوفياتي واستسلام روسيا للغرب وكان الثمن تفكك أوصال القوة الروسية العظمى حيث خطط الغرب للتفكك النهائي السلس للاتحاد الروسي وكانت محاولات يلتسين الخجولة لمقاومة ذلك، ومن هنا كانت نقطة انطلاق الحملة الشيشانية الأولى، ولو خسرت روسيا كلياً تلك الحملة، لكانت أمام خيار واحد هو الانتقال إلى إدارة موالية للغرب الليبرالي.
لتبدأ الفترة الثانية مع وصول فلاديمير بوتين إلى سدّة الحكم، وكان المسار الجديد هو وقف الانهيار المحتوم واستعادة سيادة روسيا، والإنتصار في الحملة الشيشانية الثانية ليصبح الشيشان، الذين كانوا انفصاليين وأعداء روسيا، أكثر الأبناء ولاءً لروسيا والمدافعين عنها. كما تم القضاء على الحركات الانفصالية في مناطق أخرى. وعززت روسيا استقلالها وبدأت في التأثير بنشاط على العمليات الدولية واعترف الغرب باستراتيجية بوتين وتركيزه على السيادة، وبدأ في الاستعداد لمواجهة جدية.
لتبدأ المرحلة الثالثة في العام 2014، حين حقق دعاة العولمة “انفراجة” في أوكرانيا، ونظموا ودعموا انقلاب عسكري وجلبوا إلى السلطة في كييف زمرة نازية معادية لروسيا ذات ولاءات أميركية – ناتوية، ليكون الرد الروسي بإعادة ضم شبه جزيرة القرم ودعم شعب دونباس.
ولم يأخذ الغرب تحذيرات بوتين على محمل الجد وتمادى بتهديداته الأمنية للحدود الروسية ليكون تاريخ 24 شباط/فبراير 2022 نهاية لهذه المرحلة من المناورة وتبدأ معه مرحلة المواجهة الفعلية بين العقلية الروسية “المحافظة” والغربية التي تسعى لتدمير جميع هياكل المجتمع التقليدي سواء كان “الدين، الدولة، الأسرة، الأخلاق، وحتى الإنسان نفسه” عبر دمجها مع آلة ووضعها تحت السيطرة الكاملة كما سبق وطرحته “هوليوود” بأجزاء فيلمها “ماتريكس”.
فيما روسيا ذات السيادة لا تنسجم مع هذا السياق على الإطلاق، ولهذا السبب يدعم الغرب علانية كل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة ويوجه الأعمال الإرهابية ضدّ روسيا، وضدّ الروس، وضد الحضارة الروسية نفسها وحامليها وضدّ فلاسفتها إذ يخشى الغرب من الفلسفة الروسية وفق ما قاله بوتين في خطابه بًعيد انضمام المناطق الأربع إلى اتحاد روسيا فكان خطاباً شديد القسوة فيما يتعلق بالغرب حيث قال كل شيء بصراحة ووضوح شديد (إما التفاوض أو الاستمرار) ما يعني أنه طلاق “استراتيجي” كامل مع الغرب ويحمل في طياته “حرب دينية” ضدّ الأفكار الليبرالية الغربية “المتوحشة” حيث عارض بوتين نفسه وروسيا مع الغرب في كل شيء من الأخلاق والقيم إلى التاريخ والتوجه المستقبلي للتنمية، ويمكن اعتباره إعلان عن حملة “صليبية” ضدّ “الصليبيين” في الغرب، خاصة مع إعلانه أنّ تفجير نورد ستريم يرتقي للإرهاب الدولي وإلقاء اللوم على الأنجلو ساكسون في تفجيره.
أما بالنسبة لانضمام المناطق الأربع، نتيجة للاستفتاءات التي انتهت بقرار الانضمام إلى روسيا فإنها غيّرت من السياق الجيوسياسي في أوروبا بأكمله ما يعني الانتقال من مرحلة العملية العسكرية الخاصة إلى حرب لتحرير الأراضي الروسية من “الغزاة الفاشيين” حيث سيكون القتال الآن على “أراضي روسية” وكما قلت سابقاً أوكرانيا الحالية لن تعد موجودة وربما ستدخل بولندا في هذه الحرب…! فيما ستنتقل الحدود المؤقتة المستقبلية للاتحاد الروسي في تشربن الأول 2022 تدريجياً نحو الغرب.
كانت روسيا الاتحادية أمام خيار إما تفكيك روسيا وهو ما أراده الغرب أو تفكيك أوكرانيا وهو ما نتج عن السياسات الغربية وعدم إصغاء الغرب للتحذيرات الروسية..
وهنا نعود إلى ما ذكره الجيش الروسي سابقاً بإن الهدف من المرحلة الثانية من العملية الخاصة هو فرض السيطرة على نوفوروسيا وهي المنطقة الممتدة من خاركوف إلى أوديسا. أما فيما يتعلق بـ “كييف” وغرب أوكرانيا فإنه ما يزال موضوع نقاش ولم يبت به وربما سيكون جزء لا يتجزأ من المنظومة الأطلسية..
كما أن هذه الاستفتاءات قد تفتح شهية بولندا ورومانيا والمجر لاستعادة أراضيها التاريخية من الجغرافية الأوكرانية الحالية وهو ما قد يساعد على تحقيقه عدم وحدة الموقف الأوروبي تجاه روسيا وأوكرانيا خاصة بعد الأزمة الطاقوية والغذائية التي نتجت عن العقوبات الغربية على روسيا كذلك التضخم الذي طال قطاعاتها رغم أن الظاهر يقول بوحدة الموقف الأوروبي إنما الباطن مغاير كلياً..
وفي العودة إلى الحدود المستقبلية الروسية فربما ستمر تلك الحدود على طول الحدود الغربية أو الشرقية لمنطقة كييف أو على طول نهر الدنيبر، أما أوليسام في الجنوب فستكون جزء من روسيا مثل خاركوف، وربما ستعود أوكرانيا كلها إلى روسيا كما كانت تاريخياً جزء من الجغرافية الروسية.
في المحصلة روسيا أمام مواجهة لا تستطيع التراجع عن خطواتها ومستمرة بها حتى النهاية إذا ما كان الميزان إما تقسيم روسيا أو أوكرانيا. بالتالي الحرب بدأت ومن المستحيل تجنبها ووفق المنطق الأساسي لتاريخ الأشياء فهناك قوى تريد الحفاظ على العالم أحادي القطبية وفرض هيمنتها بأي ثمن، بينما يثور آخرون ضدها ويعلنون صراحة نظام عالمي متعدد الأقطاب، فيما يعتمد المستقبل على من سينتصر في هذه الحرب.
وقد دخلت روسيا كأحد الأقطاب السيادية في هذه الحرب كما أنّ الصين هي قطب سيادي قوي أيضاً على وشك الدخول. لذلك، ليس من المفاجئ اتساع رقعة بؤر الصراع بين حلفاء روسيا، كما هو الحال ما بين أذربيجان وأرمينيا، طاجيكستان وقيرغيزستان، وهناك من يتوعّد بفتح جبهة في جورجيا، والتحريك المصطنع للصراع في مولدوفا، وتنامي التهديدات في بيلاروسيا، ومحاولة عزل منطقة كالينينغراد، إضافة إلى الهجمات المباشرة على المناطق الروسية..
إنّ كل هذه البؤر هي عناصر الاستراتيجية الغربية – الأميركية المعتادة لخنق روسيا وإشغالها في أكثر من منطقة في الصراع فيما تسعى روسيا لتشبيك مع حلفائها في عالم متعدد الأقطاب وهذا يفسر المعنى الحقيقي لقمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة، فروسيا بحاجة إلى حلفاء ولديها فرصة للعثور عليهم لكن هذه المرة خارج الغرب.
في المحصّلة، نحن في الحرب العالمية الثالثة، ودخلت روسيا في المرحلة الثالثة من تاريخها الحديث عنونت هذه المرحلة بالحرب مع الغرب الذي تمكن من فرضها عليها ولم تتمكن روسيا من منعها أو تجنبها، ليكون الخيار الوحيد المواجهة حتى النهاية أو الإستسلام للغرب وما تخوضه روسيا اليوم في مرحلتها الثالثة من تاريخها الحديث هو الأكثر دقة والأشد حسماً لناحية وجودها فالحرب الجيوسياسية للغرب ضد روسيا مستمرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلا أنّ المراحل تتقلّب بدرجة حرارتها من البرودة نحو السخونة والآن هي في أشد درجات حرارة المواجهة.
حيث إن الغرب لا يسمح حتى بإمكانية وجود روسيا ذات سيادة ومستقلة وذاتية، وينطبق الشيء نفسه على الصين، وكذلك الدول الأخرى التي تأخذ سيادتها على محمل الجد. في حين يكون الحق بالوجود وفق وجهة نظر دعاة “العولمة” فقط تلك التي تتفق مع الأيديولوجية الليبرالية، والحركة نحو الحكومة العالمية أي مع الخط العام للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، أما من يعارضها فيتعرض للدمار.
ليكون “استيقاظ” روسيا في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها الحديث، هو من أوائل خططها للمواجهة وإعلان الأحكام العرفية والعمل بها وتحديداً في المناطق الحدودية الرئيسية الأكثر ضعفاً فهي بالفعل في حالة حرب وربما ستضع السلطات إجراءات صارمة وأحكام عرفية مع قابليتها للتعديل بالتوازي مع حالة الحرب التي تعيشها تماماً كما كان الحال خلال وباء كوفيد.
وربما ستعيد هيكلة الاقتصاد بطريقة حربية في ظل مثل هذه الظروف القاهرة والتي تقول بوضع النظام المالي والصناعي والإقتصادي على أساس حالة الحرب، فتكون الأولوية لإمدادات الجيش وتجهيز القوات الحربية بكل ما تحتاجه من أسلحة وطائرات بدون طيار وغيرها حتى بما يتعلق بالإمدادات الطبية. ومن خلال إعلامها وفلاسفتها فإنها تقوم بتعبئة كاملة للمجتمع من خلال نشر ثقافة اليقظة المجتمعية لما تتعرض له البلاد من تهديدات لتكون هذه الثقافة هي إيديولوجية الانتصار. وكما قلنا وفق مخطط هيرمان وتعديل المسارات والسياسات لتكون وفق شعار واضح: “كل شيء للجبهة، كل شيء من أجل النصر” فيكون كل شيء قابل للتعديل من أجل النصر وهو الهدف الرئيسي.