أهم الاخبار

سيدات القمر “الروائية العمانية “:جوخة الحارثى

الجائزة على جائز البوكر الأدبية

 

حاتم عبدالهادى السيد

تحيلنا جوخة الحارثى في روايتها  سيدات القمر – منذ البداية –الى حالة انسانية فطرية،رعوية،عبر الموضوع،وعبر اللغة الأكثر اشراقاً وبكارة ، فـ “ميا”،ابنة الشيخ مسعود ،البنت الصغيرة التى لا تعرف في الحياة سوى خيوط ماكينتها ،وصورة الحبيب الذى دعت الله أن يستجيب لها،لا لتتزوجه،ولا لتنشد العشق والهيام معه،بل لتراه،فقط،ولو مرة واحدة،لذا عندما أخبرتها والدتها بمجىء”ولد التاجر سليمان” ليخطبها،وجدناها تترك صلاتها،تصرخ،تناجى الاله،الذى طلبت منه مراراً أن يستجيب لطلبها،لرؤية حبيبها ومعشوقها،ولو مرة،الا أن الله لم يستجب،ومن هنا بدأت حكايتها مع الذات،العالم،الاله،الكون،الحياة.

هى ليست مثقفة كاختيها:أسماء، ولا جميلة،كخولة،ولم تر من أحبته في ذاتها ، من طرف واحد، فهى لم تشاهد الذى أحببته الا مصادفة مرتين:احداهما عندما جاء من لندن بغير شهادة، والأخرى عندما كان يسند ظهره الى جذع نخلة،يأكل تمرات والعرق ينزّ من جبيبنه،ولقد استلب روحها وكيانها فاستجمعت طاقة الحب لترسل له اشارة ليفهم مرادها ، لكن يبدو أنه كان مشغولاً عنها،وانتهى الأمر لتتزوج وتكوّن لها أسرة .

وعبر السرد الممزوج بالواقعية السحرية،تباغتنا بصوت الأم مختلطاً بسردها ،في تناغم هارمونية عارفة بصوف السرد ، تغزل جمالياته عبر لغة رشيقة،ولهجة عمانية مبسّطة، رائقة ، تستحوذ القارئ،ليلاحق فراشاتها السرديّة الملونة الجميلة عبر انتقالاتها البديعة،وأحوال العشق والهيام،والتي يختلط فيها صوت الساردة،بالمؤلفة ذاتها،فترتفع مسيرة السرد لتقارب الشعر،وما هو بشعر ولانثر،بل بوح ممتد،يمكيج العالم بسحر عذوبة،تندلق على حواف الروح لتحيلها الى عاشقة تتقلب تحت جمر النار، تتوق،تتوله، تهرب الى الذات عبر الواقع،تحيا حياتين،وتعيش مرار الوجع الشهى،عبر سرمدية العالم،وصراخ الذات في بريّة البراح السيموطيقى،الفيزيائى الشاهق،والباذخ،والمثير، الادهاشى ،التراكبى،والتراكمى،والرائع الشهىّ كذلك .

لقد أسمت المولودة اذن، لندن،وأرادت أن يكون مكان الولادة في مسقط،في “مستشفى السعادة”،لتصبح سعيدة،وليس كمثلها حزينة باكية ، صامتة ، جثة تتجاذبها الدنيا،وزوجها عبدالله ولد سليمان،وكأنها تجترّ الذكرى،تخفى خبيئة العشق الى الأبد لكنها تتنسم ولو ريح ماضيه،عندما ذهب،وعاد من لندن .

وتستخدم الساردة اللهجة العمانية،البدوية، تقول على لسان أمها تخاطب زوج ابنتها عندما ولدت ابنتها،وهى في مرحلة النفاس : ولدى ياعبدالله،هذه حرّتك تبكّرت ببنت،والبنت بركة،تساعد أمها،وتربى اخوتها،نريد للنفساء أربعين دجاجة حية،وزجاجة عسل من عسل الجبل الأصلى،وزجاجة سمن بقر بلدى،ولما تكمل لندن أسبوع احلق شعرها،وتصدّق بوزنه فضة،واذبح عنها شاة ووزّع اللحم على الفقراء “.

انها عادات العمانيين ،تعكسها عبر لهجة مبسطة،رشيقة لتحيلنا الى ثنائية السرد عبر:الشفاهية،والكتابية .

كبرت لندن وولدت ميا بعدها أولاداَ آخرين، وهى هنا تسرد حياة البداوة،حياة مسقط،صلالة،نزوى،والأماكن التى تسرد تاريخ المكان عبر الذات،عبر الفطرة والتمدين بعد ذلك، فهنا الملك الذى يدير المملكة بحكمة القائد،صاحب السمو والجلالة،والأسر العمانية التى تحيا في رعوية وفقر،قبل أن تنهض المملكة بشموخ،لتكون في مصاف كبريات الدول العربية الغنية ،وهى في هذا المجتمع المحافظ تسرد روحها،عبر التاريخ والجغرافيا، الأماكن الممتدة،وكأنها تعيد سرد تاريخية المكان وساكنيه، وأحوال المملكة،قديما وحديثاً : انتقالها من عملها على ماكينة الخياطة،الى البيت الجديد،الوثير،والرغيد،وأسفارالوالد الكثيرة،فنراها تحايث العالم،لتشتبك التاريخية بالماضوية بالحاضر ،وتستشرف عبر السرد الرعوى البدائى،سردها الخاص،المحلى عبر العالمى، والذاتى عبر الكونى،وكأنها في ديمومة القصّ تعيد رصد تفاصيل الواقع والعالم والحياة .

انه المجتمع المحافظ اذن،” عمان “:القيم والأصالة،ترى في مشاهدة التلفاز عبر المسلسلات المصرية والعراقية جريمة كبرى،خارج التقاليد العمانية المحافظة،وهى التى تصرّ على أن تقول عن مسقط ” مسكد”،لتدلل الى حالة الفطرة، وعدم معرفة حتى بأسماء الأماكن،والأزمنة،والعالم .

انه السرد العمانى اللهجى،الذى تطعّمه بالتفاصيل،لتحيلنا عبر اللهجة الى جماليات البداوة،الى تجسيد مشهدية الواقع السحرى ، عبر الحساسية الجديدة،وعبر تراسل الحواس،والتشكيل البصرى الجمالى لتدخلنا كطرف مشارك في اللعبة السردية العفوية، الرعوية الشاهقة،والشائكة والترميزية ،وعبر الانزياحات،تحيلنا الى دائرة الهرمونيطيقا،للذات المأزومة،المتجلّدة،التى تعكس طبيعة المرأة العمانية وشخصيتها القوية،في تسيير الحياة،بينما الرجل رأيناه في الرواية : الزوج،الابن،الخادم،الشخوص الذكورية،متستلبة،لتعلى من الرأى والمشورة للمرأة العمانية الحكيمة،المحافظة،والمثقفة كذلك .

وعبر التضمينات السياقية للسرد المعجمى،اللهجى العمانى، رأيناها تقوم عبر الهامش،بشرح مستغلقات مفردات اللهجة، وكأنها تعبر عبر اللهجة، لتحيلها الى لغة عالمية،عامية دارجة ، وتريد لها الانتشار عبر فضاءات السرد المكتنز،الذى يتغيّا خلف ظاهر النصيّة،ليحيلنا الى مدلولات ومرموزات أشبه بشيفرة تفككها لنا عبر البنيوية،ثم تعيد عمليات الهدم والبناء،والتركيبية عبر مسيرة السرد الاشراقى الباذخ ،والصور الجمالية البسيطة، والوصف السّيميائى للأماكن والشخوص،ومفردات البيئة العمانية أيضاً .

وعن مديح السفر والغياب على لسان ابنتها لندن ، {أينا الفتاة قد كبرت وتحلم بركوب سيارة لاندكروزر كى تكتمل وجاهتها الاجتماعية كطبيبة،وكم تمنت السفر مثل والدها ، لكنه كان يحفل بالاقامةبجانبهم ، يقول:(على كثرة أسفارى مازلت أفضّل الجلوس بجانب النافذة،ومراقبة المدن،وهى تصغر تدريجياً حتى تتلاشى. قالت لندن:” تسافر كثيراً يا أبى”،لم أقل لها أننا في الغربة نتعرّف على أنفسنا بشكل أفضل كما في الحب) .

انها تحكى سيرة تاريخ عمان وانتقالها تدريجيا من حياة المدينة والقبليّة،ورعى الجمال والغنم،وصوت الشبّابة والناى،الى حياة التمدين والرقى،ومشاهدة التلفاز-الذى كانت ترفضه،وتعدّه جريمة من قبل- وتعلم الانجليزية وركوب السيارة من جانب المرأة،وتغيّر شكل المأكل والملبس والتفكير،والبيت العمانى أيضاً .

لقد تفاعد الأب اذن،وتفرغت المرأة لأسرتها ترعاها من الشتات وتعوضها،غياب الأب السيميولوجى،المجتمعى.

انها اذن حكّاءة كبيرة ، تسرد حكايات”سيدات القمر”اللاتى أوغلن في الحب،وولن التكيف مع الحداثة،والتمدين،في ذلك المجتمع المحافظ .

وتجيد الساردة / الكاتبة استخدام تقنية “الفلاش باك”،” كاميرا الذات عبرالسينما الحديثة ،التّداعى، تطويق الذاكرة لتعيد نسخ الأحداث، تضيف اليها ،تعبرها تهرب منها،اليها،وتتذكرالحب الأول الصادق –في ذاتها –فرأيناها تنسى ، أو تنسينا تفاصيل سرد قصتها لتندغم في سرد حكايات أخواتها ,حياتهن وعشقهن ، وزواجهن، وطرائق معيشتهن،عبرمواقف وشخوص ثانوية ومركّبة،لتعيد للسرد اشراقاته البهية،حيث تصتع الواقع السحرى ،الممسوس بالتاريخ ،وتصل عبر جسر روحها الأزمنة بالأمكنة، وعبر الانزياحا،نراها تتخلص سريعاً من الماضى،لتندغم في الحاضر،والمستقبل المرتبط بالماضى،وكأنها بلاغة دوائر السرد السيميائى المكتنز،أو واقع السرد السيموطيقى السيميائى الرعوى ،القبلى،اللهجى،المدينى،الذى يصل الواقع بالحياة الجديدة .

ورغم كثرة شخصيات الرواية التى تصنع زمكانية الرواية،الا أننا لم نلمح شخصيات مقحمة على السرد،بل هى شخصيات تظهر وتختفى،حسب المواقف،لنقف على دلالة احكامها القوى لمتن الرواية،معماريتها عبر الشكل والمضمون،واللغة التى تمتزج باللهجة،كما أنها تستعير شعر ابن الرومى،والمتنبى،لتزركش السرد،وتضفى عليه بهجة،وجمالاً فطرياً شاهقاً،أو كما يقول المتنبى :

حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفى البداوة حسن غير مجلوب

انها البادية بصحرائها،قصصها،حكاياتها،عاداتها وتقاليدها، ألعابها الفطرية،ملابسها المميزة،أزيائها،زينتها،حيواتها الفريدة الباذخة،وطرائف تفكير أهلها،همومهم،أحزانهم،أفراحهم،أتراحهم،

عشقهم،وهى في كلّاستطاعت أن تجيد اشراك القارىء ،في اللّعبة السرديّة الكونية،والتعريف بعالم البدو،في صحراء عمان، ومملكتها الشاهقة،عبر العصور والأزمان .

انها  جوخة الحارثة،تنسج من عباءة السرد صوف المفردات الذهبى،وتلبس معطف البهاء والاشراق،لتحيلنا الى رعوية الحياة وبساطتها،والى الحضارة والحداثة للمجتمع الجديد في عمان،عبر تعاقب الأجيال،من خلال عائلة، قبيلة،مجتمع،تسرد حكاياته،بكل ما فيها من جمال ورهقومتعة،لتحيلنا الى ذواتنا،لنرى عمان التاريخ ،الماضى والحاضر .نعبر الجسر لنستشرف معها مستقبلاً للسعادة ،ربما لا يجىء ،وربما يجىء أيضاً .

انها تعزف صوفية الحزن،تاج البهاء،روعة الحكايات،غرائبية السرد،نورانية الجمال الفطرى،حكايات البادية،التّوق،الخوف، الحب،الهجر،الطلاق النسيان،الصمت،وهى المرأة العنيدة تخبىء حبها الأول بين طيّتها،وتنفتح على الآخرين بحكاياتهم لتخفى -حتى النهاية – تفاصيل حكايتها،وكأنها توهمنا بالسرد الذاتى، لتعلى مسيرة السرد الحكائى،عبر سرد المكان،لعمان البادية ، المدينة،الحاضر،المستقبل، وتخفى حكاياتها التى سنظل نبحث عن نهاية لها عبر مخيلتنا كقراء،الا أنها نجحت في سرد تفاصيل واقع مسرود،واحتفظت لنفسها بسر محبوبها الأول الذى رأته عائداً من لندن مصادفة،يأكل التمر،ويغيب في العالم والكون والحياة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى