تاريخ ومزارات

موقع العلا.. ذاكرة الحضارات وأسرار الحجر في السعودية

أسماء صبحي – في قلب صحراء شمال غرب المملكة العربية السعودية، يقف موقع العلا كأحد أهم المواقع الأثرية في العالم. تجمع بين الجمال الطبيعي والتاريخ العميق الذي يمتد لآلاف السنين. وتعد العلا متحفًا مفتوحًا يضم آثارًا لحضارات متعددة تركت بصماتها في الرمال والصخور. بدءًا من مملكة دادان ولحيان وصولًا إلى حضارة الأنباط التي شيّدت العجائب المنحوتة في الجبال.

تاريخ موقع العلا والهوية

تعتبر العلا من أقدم المدن المأهولة في شبه الجزيرة العربية إذ كانت مركزًا تجاريًا مزدهرًا يربط بين جنوب الجزيرة وشمالها. ويشكل محطة رئيسية على طريق البخور القديم. وكانت مملكة دادان التي ازدهرت في المنطقة بين القرنين التاسع والسادس قبل الميلاد من أوائل الممالك التي تركت بصمات معمارية مذهلة في العلا. حيث أُقيمت المعابد والنقوش التي ما زالت شاهدة على مدى تطور الحياة السياسية والاجتماعية آنذاك.

ومع مرور الزمن، ورث الأنباط هذه المنطقة، فشيدوا فيها مدينة الحِجر أو مدائن صالح التي أصبحت لاحقًا من أبرز المدن النبطية بعد البتراء. ومن خلال فنونهم في نحت المقابر في الصخور بدقة هندسية مذهلة، سجل الأنباط فصلاً جديدًا من الإبداع الإنساني في العلا.

موقع أثري عالمي

أدرجت منظمة اليونسكو مدائن صالح ضمن قائمة التراث العالمي عام 2008 كأول موقع سعودي يحظى بهذا التصنيف. ويضم الموقع أكثر من مئة مقبرة منحوتة في الصخور، تظهر مستوى متقدمًا من الفنون الهندسية والدينية لدى الأنباط. كما تنتشر النقوش والرموز القديمة على الجبال موثقةً جوانب من الحياة الاقتصادية والعقائدية في تلك الحقبة.

ولم يكن اختيار اليونسكو لهذا الموقع صدفة، إذ تمثل العلا مركزًا فريدًا لتلاقي الحضارات بما فيها حضارات عربية قديمة مثل لحيان وثمود. إلى جانب التأثيرات الرومانية واليونانية في بعض الفترات التاريخية.

العلا في العصر الحديث

شهدت العلا في السنوات الأخيرة اهتمامًا غير مسبوق ضمن رؤية السعودية 2030. حيث أطلقت مبادرات ضخمة لتحويلها إلى وجهة سياحية وثقافية عالمية. ومن أبرز هذه المبادرات “الهيئة الملكية لمحافظة العلا” التي تعمل على تطوير البنية التحتية وحماية الآثار، مع الحفاظ على الطابع البيئي والثقافي للمكان.

كما أصبحت العلا منصة لاحتضان الفعاليات الفنية والموسيقية الدولية. أبرزها مهرجان شتاء طنطورة، الذي يجمع بين الفن، والموسيقى، والتاريخ في بيئة ساحرة. وتعد هذه الجهود خطوة مهمة في جعل العلا رمزًا للهوية السعودية الحديثة التي تحترم ماضيها وتفتح أبوابها للمستقبل.

ويقول الدكتور عبدالله السالم، الباحث في علم الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة الملك سعود، إن موقع العلا ليست مجرد موقع أثري، بل هي كتاب مفتوح عن تطور الإنسان في الجزيرة العربية. كل حجر هنا يروي حكاية حضارة ازدهرت ثم عبرت، لكنها تركت بصمتها العميقة في تشكيل الوعي الثقافي العربي. والاهتمام الرسمي بهذا الموقع اليوم يمثل إحياءً لذاكرة حضارية تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى