المنصور بن أبي عامر.. زعيم القبيلة الذي صار سيد الأندلس
أسماء صبحي – في تاريخ الأندلس الطويل، لا نجد فقط قبائل حكمت أو شاركت في صنع الأحداث. بل هناك شخصيات قبلية فردية تمكنت من أن ترتقي من صفوف العامة إلى قمة السلطة لتصبح صانعة القرار في واحدة من أعظم حضارات العصور الوسطى. ومن بين هذه الشخصيات يبرز اسم المنصور بن أبي عامر المعافري الذي خرج من أصول قبلية عربية بسيطة ليصبح أقوى رجل في الأندلس. وقائدًا عسكريًا أسطوريًا لم يخسر معركة واحدة.
نشأة المنصور بن أبي عامر
ولد محمد بن أبي عامر عام 938م في منطقة الجزيرة الخضراء جنوب الأندلس. وينتمي إلى قبيلة المعافرة اليمنية القحطانية. ومانت القبيلة معروفة بمكانتها بين القبائل العربية لكن لم يكن أحد ليتوقع أن أحد أبنائها سيصبح يومًا الحاكم الفعلي للأندلس ويتفوق في سلطانه على الخلفاء الأمويين أنفسهم. ونشأ في بيت متوسط الحال، واهتم منذ صغره بالعلم والدراسة حتى برع في الفقه والأدب.
بداية الطريق
انتقل الشاب محمد إلى قرطبة عاصمة الأندلس حيث التحق بديوان القضاء والإدارة. وبفضل ذكائه واجتهاده استطاع أن يقترب من دوائر الحكم وأن يكسب ثقة الحاشية والوزراء. كما كان يتمتع بمهارة نادرة في الجمع بين فصاحة اللسان وحنكة السياسة مما جعله يتدرج سريعًا في المناصب حتى وصل إلى بلاط الخليفة الحكم المستنصر بالله. وهناك بدأت رحلته نحو القمة.
السيطرة على الحكم
بعد وفاة الحكم المستنصر وتولي ابنه الصغير هشام المؤيد بالله ووجد محمد بن أبي عامر الفرصة سانحة لتعزيز سلطته. وبمساعدة والدة الخليفة السيدة صبح البشكنجية تمكن من أن يصبح الوصي على العرش. ثم استأثر بالحكم شيئًا فشيئًا حتى صار الحاكم الفعلي للأندلس. واتخذ لقب الحاجب المنصور وباتت الدولة كلها تدين له بالطاعة بينما تحول الخليفة إلى رمز شكلي.
الإنجازات العسكرية
اشتهر المنصور بأنه القائد الذي لم يهزم. وقاد أكثر من خمسين غزوة ناجحة ضد الممالك المسيحية في الشمال مثل قشتالة وليون وبرشلونة. وكانت حملاته العسكرية منظمة وفعالة تعتمد على تعبئة القبائل العربية والبربرية وعلى استخدام تكتيكات ميدانية متطورة. وبفضل هذه الحملات، توسع نفوذ الأندلس، وامتلأت خزائن قرطبة بالغنائم. وأصبح اسمه مرعبًا لأعداء المسلمين، حتى أن سجلات الممالك المسيحية كانت تذكره بعبارات التقدير والخوف.
السياسة والإدارة
لم يكن المنصور مجرد قائد عسكري، بل كان إداريًا بارعًا. وأعاد تنظيم الجيش، وأدخل إصلاحات على نظام الضرائب، واهتم بالبنية التحتية. وأسس مدينة جديدة عُرفت باسم مدينة الزاهرة لتكون مقر حكمه منافسة لقرطبة. كما شجع على العلم والأدب وكان محاطًا بالعلماء والشعراء. لكنه في المقابل، مارس سياسة صارمة ضد معارضيه، وقمع الثورات بيد من حديد.
الجانب القبلي
رغم وصوله إلى أعلى سلطة لم ينسى المنصور جذوره القبلية. وظل يفتخر بانتمائه إلى قبيلة المعافرة وكان يحيط نفسه برجال من أبناء قبيلته وأهل ثقته. وهذه العصبية القبلية ساعدته في تثبيت حكمه، إذ اعتمد على الولاءات العشائرية إلى جانب سلطته السياسية.
الوفاة والإرث
توفي المنصور عام 1002م بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والانتصارات. ورغم أن خلفاءه لم يتمكنوا من الحفاظ على مجد الدولة كما فعل،ط إلا أن إرثه ظل حيًا في الذاكرة. واعتبره المؤرخون أعظم حاجب عرفته الأندلس ورمزًا للقوة والدهاء والقدرة على تحويل الطموح الفردي إلى إمبراطورية فعلية.
ويقول الدكتور خالد السالم، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الإسكندرية، إن شخصية المنصور بن أبي عامر تجسد التحول من زعيم قبلي بسيط إلى قائد دولة عظمى. لقد استطاع أن يوظف انتماءه القبلي في بناء قاعدة دعم قوية وأن يستخدم مهاراته الشخصية ليصبح الحاكم الفعلي للأندلس. إن سيرته تمثل درسًا في الطموح والقيادة، وهي دليل على أن القبيلة كانت ولا تزال عنصرًا أساسيًا في صياغة التاريخ.



