قبائل المعافر.. نسل الأغراب والملوك نزحوا لمصر مع قدوم القحطانيين من اليمن
حاتم عبدالهادي السيد
جاء المعافرة؛ العفر؛ إلى مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة ضمن القبائل القحطانية التى نزحت من اليمن؛ ثم مع مجىء عمرو بن العاص لفتح مصر ؛ ولقد كانوا ثلاثة عشر بطناً ؛ كما يقول أ/ عبدالله خورشيد البرى في كتابه “القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة”.
يعد “بنو مالك” الفرع الثانى لقبائل بنى عدى التى تنتسب إلى لخم ؛ وينقسم بنو مالك إلى قبيلتين كبيرتين هما :
1- المعافر 2- بنو خولان
أولاً : المعافر: أولاد عفير بن مالك بن عدى القحطانى اليمنى الذين وفدوا من اليمن ؛ وكانوا أهل جد ونجدة؛ فكانوا أقوياء مناضلين؛ مثلما كانوا مهرة؛ ينتجون “الثياب المعافرية ” التى اشتهروا بها .
وكعادة القبائل فإن لكل قبيلة نخوة معروفة؛ ونخوة المعافر: ( مُشَاقِّيْنَ للملوك؛ لقاحاً، لا يدينون لأحد) وهذا ما اشتهروا به، لأنهم أحرار لا يخضعون لملك أو سلطان لأنهم في الأصل من سلالة الملوك في كندة وسبأ قبيلة ملوك العرب قاطبة .
وقد نزل بمصر ثلاثة عشر بطناً من المعافرة؛ شاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر؛ وكانت لهم السطوة وكثرة العدد، فقد كانوا حوالى عشرين ألفاً ، كما شاركوا في حرب ” ابن جحدم ” ضد مروان بن أمية في الفترة من عام 64-65 هـ؛ وكانوا كما يذكر صاحب كتاب الحفظ من أكثر قبائل مصر عدداً؛ بما يعكس ضخامة هذه القبيلة في مصر آنذاك.
وشارك المعافر في فتح مصر؛ وأنزلهم عمرو بن العاص بداية حول الجامع في الفسطاط؛ إلا أنهم انتقلوا – بسبب البعوض – في زمن الفيضان للنيل إلى الجبل المشرف على البركة ؛ والتي أصبح اسمها ” بركة وجبل المعافر”، وكان الجبل في مكان مرتفع وهو ما يشبه مساكنهم القديمة في أعالى اليمن التى نزحوا منها، ولقد أشرفوا على قبائل مصر؛ بما فيها قبيلة قريش – التى كانت تسكن تحت أقدام الجبل حول الجامع- بما يعكس مكانتهم وقوتهم وسطوتهم؛ وكثرة أعدادهم كذلك ، كما كانت معهم في البركة قبائل من حمير .
وقد أنشأ عمرو بن العاص بناء على رأي الخليفة عمر بن الخطاب “نظام الارتباع في مصر”؛ ويقصد به أن يستريح الجند لمدة شهرين أو ثلاثة في العام ويذهبوا للراحة في الجبال والصحارى كى لا ينسى الجند حياة الجندية وينغمسوا في ملذات وترف المدن وعاداتها، وهو نظام “تعريب العرب” كى لا ينسوا حياة البداوة، ويحافظوا على عاداتهم وتقاليدهم ، كما أنها فرصة للتدريب على فنون القتال؛ والتشاور في أمور الحرب والمعيشة، والراحة كذلك ، ولقد أسموا أماكن كل قبيلة ” كورة ” أى منطقة مكورة تخص كل قبيلة على حدة.
ولقد تعددت مرتعات القبائل نظراً لكثرة عددهم؛ وكانت مرابعهم في مناطق : ” أتريب “؛ ” سخا ” ، منوف؛ وسخا هى كورة عاصمتها هى مدينة سخا الحالية بكفر الشيخ )؛ كما عاش العفر في مدينة الإسكندرية وعلى أطرافها.
وكثر في المعافر الشعراء، وحفظة القرآن الكريم ؛ ولعل أول من قرأ القرآن بمصر هو ” عبيد بن عمرو الصحابى الذى شهد الفتح ، فلما مات دُفن بمنطقة ” القرافة ” والتي اشتهرت كذلك باسم ” قرافة العفر “.
وشارك العفريون في الحياة السياسية في مصر بقوة؛ وشهدوا حرب ابن جحدم، وكانوا عشرين ألفاً – جميعهم اشترك في الحرب- ؛ ما دعا الشاعر عبدالرحمن بن الحكم أن ينشد في شجاعتهم ؛ وفى بطولات الجيش المصرى آنذاك الذى وقف في وجه “مروان بن الحكم” سنة 65هـ ليمنعه من دخول مصر؛ ولقد صور الشاعر أهم فرقة في المعركة ؛ وهم فرقة المعافر فقال :
وجاشت لنا الأرض من نحوهم بحيىَّ تجيب ومن غافق
وأحياء مذحج والأشعرين وحمير كاللهب المحرق
وسَدَّت معافر أفق البلاد بمرعد جيش لها مبرق
وقد كان المعافر في عداوة مع الأمويين، إذ كانوا ينتصرون لعلي بن أبى طالب؛ وقاموا بنصيب ضخم من الحروب ضد المروانيين؛ وكان زعيم المعافرة “عبدالرحمن بن موهب ” والذى وقّع بعد ذلك صلحاً مع الأمويين؛ وكان من أكابر الناس ؛ ورجلاً ذا ثراء ونفوذ، وكانت حكيماً في الأمر لأنه لا يريد إفناء القبيلة في عداوة مع الأمويين ؛ فقد كثر القتال بينهم؛ وشهدت المعارك الكثير من القتلى من الجانبين آنذاك .
ولعل نخوة العفر كونهم يشاقون الملوك ويعصونهم، لأنهم من سلالة ملوك في الأصل قد جعلت كثيرين منهم يرفضون ذلك الصلح؛ مما اضطر مروان إلى قتل ثمانين من العفر الذين رفضوا بشدة أن يخلعوا “بيعة ابن الزبير”، ليبايعوه هو؛ كما يقال أن مروان بن أمية قد قتلهم لأنهم رفضوا “إعلان البراءة من علي بن أبي طالب”؛ بما يعكس ميولهم العلوية.
والعفر مشاقون للملوك ؛ لا يذعنون لأحد، لذا رأيناهم في القرن الثانى سنة 117 هـ يرفضون أمر الخليفة الإسلامى نفسه في مسألة “المكاييل”؛ فقد رفضوا استعمال “المدى”، الذى أراد توحيد المكيال به في بلاد خلافته، واستعملوا “المكيال المحلى” من “الويبة ” و “الإردب” ؛ ولقد افتحر شاعرهم بتمردهم وخروجهم على الخليفة فقال :
من بعد ما ذلت له أعناق يعرب بل مضر
فقد رفضوا الذل، والانصياع لأمر الخليفة، حيث كانوا يأخذون رأيهم من عقلهم فقط، ودون إملاءات من أحد؛ حتى لو كان خليفة المسلمين نفسه، ولقد ظل المعافر يعادون الحكم الأموى طوال فترة حكم الأمويين عدا قلة قليلة منهم؛ ومنهم ” عبدالرحمن بن موهب العفرى”، وهو الذى رفض كذلك إجماع أهل مصر على خلع “مروان بن محمد ” لما دعاهم إلى ذلك الثوار اليمانيون سنة 127هـ، كما كان من قادة العفر الكبار “عبدالرحمن بن عتبة المعافرى” الذى أخمد ” ثوررة يحنس القبطى ” بمنطقة “سمنود ” بالبحيرة سنة 132هـ ، كما أخمد ثورة “أبى مينا ” بها كذلك عام 135هـ .
وكانت هناك حركة عرفت باسم “حركة التسويد في مصر” ؛ لكن لم تخبرنا المصادر باشتراك العفر في هذه الثورة؛ وربما يرجع ذلك إلى احتفاظهم بميولهم العلوية نحو علي بن أبي طالب؛ فعندما فر “على بن محمد بن عبدالله ” من الأمويين سنة 144هـ؛ وكان أول علوي قدم إلى مصر رأينا العفر يستقبلونه بحفاوة، ولقد أخفاه “عسامة بن عمرو العفرى ” في منزله؛ كى لا يتعقبه الأمويون؛ كما قام بتزويجه ابنته ، لكن المهدى تعقب “عسامة ” وحبسه لهذا السبب؛ ثم عفا عنه بعد ذلك، وأصبح “عسامة المعافرى” من كبار رجال الدولة في مصر حتى توفى عام 176هـ .
ولعل المعافر قد بدأ يتناقص عددهم بسبب الحروب، وعداوة الأمويين لهم؛ وقد اطمأن ” أمير مصر” للعفر لما علم بأنهم لم ينضموا إلى ” الحركة العلوية ” التى ظهرت سنة 145هـ ، حيث كان قائد العفر – آنذاك – “أبا حزن المعافرى ” ، كما لم يشاركوا في ” ثورة المدلجى” (252-253هـ )؛ حيث انضم قائد العفريين ” ابن عسامة” إلى ” ابن الأرقط العلوى” في محاربة قوات الدولة ؛ ولكنه استسلم؛ ولبس السواد لما فشلت الثورة. (انظر كتاب الولاة : 207:206 هـ).
وفى العصر العباسى زادت سطوة المعافر السياسية بمصر؛ وظهر منهم الولاة؛ وكبار رجال الدولة والشرطة في مصر ومنهم : ” بكار بن عمرو ” الذى قُتل وهو يحارب ” دحية بن مصعب “سنة 168هـ؛ و ” محمد بن عسامة ” والذى كان ” قائد الشرطة في مصر ” لأربعة آراء فى الفترة من ( 190-201هـ) ؛؛ و ” أبو بكر بن جنادة المعافرى والذى كان والياً لمدينة الإسكندرية سنة 199هـ ، كما تولى “إمارة الشرطة” سنة 201هـ .
كما كان من المعافرة الكثير من العلماء الذين شاركوا في الحياة الدينية ولعل أبرزهم ” بكار بن عمرو “القائد والعالم الكبير الذى أسلفنا ذكره؛ ومنهم “سعيد بن عبدالله بن أسعد” من كبار أصحاب الإمام مالك- المذهب المالكى- والمتوفى بالإسكندرية عام 173هـ ، “عبدالله بن يحيى من صغار أتباع التابعين بمصر والمتوفى بمصر عام 212هـ، ومن العلماء كذلك “ضمام بن إسماعيل العفرى” من مشاهير ” محدثى مصر ” أى من كبار رجال الأحاديث النبوي وحفظته، ومعلميه الكبار وقد توفى بالإسكندرية عام 185هـ . ( كتاب الأنساب).
ولعل العصر العباسى هو عصر المعافر الذهبى في مصر، فقد علا شأنهم علواً كبيراً في مصر، وتقلدوا أرفع المناصب العليا، وكان الولاة يخطبون رضاهم وودهم، ولقد بنى لهم أمير مصر فسقية خاصة ( بئراً لاستخراج الماء ) عندما اشتكوا قلة وصول الماء إليهم عام 146هـ، كما حفر لهم ” ابن طولون ” حاكم مصر عيناً تمر بأراضيهم في عهد الدولة الطولونية، ولقد خلد ذكر ذلك شاعر المعافر ” سعيد القاص المعافرى” وهو يبكي الدولة الطولونية فقال واصفاً ماء عين المعافر :
يمر على أرض المعافر كلها وشعبان والأحمور والحى من بشر
قبائل لا نوء السماء يمدها ولا النيل يرويها ولا جدولٌ يجرى
كما قال في ” أحمد بن طولون” :
فبالجبل الغربى خطة يشكر له مسجد يغنى عن المنطق الحذر
ولعل أوراق البردى، وشواهد القبور الموجودة في كل أنحاء مصر تسجل وجود المعافر في القرنين الثانى والثالث الهجريين.
ثانياً : بطون العفر في الديار المصرية
قبيلة العفر، أو المعافر، أو المعافرة كما يطلق عليهم، ينتسبون إلى مالك من قبائل بني عدى؛ ولقد كانوا ثلاثة عشر بطناً في الديار المصرية؛ وقد انتشروا في محافظات مصر المختلفة، وكان منهم الولاة لمدينة الإسكندرية، كما كان منهم قادة الشرطة (القائد العام للشرطة المصرية كلها)، وسنورد هنا بطون المعافر في مصر آنذاك وهم :
1- بنو موهب: وهم اختطوا في بطون العفر كما يذكر ذلك صاحب كتاب “فتوح مصر ( ص 126:128)؛ ومنهم عمارة بن الحكم المحدث والمتوفى بالإسكندرية سنة 247هـ ؛ وعبدالرحمن بن موهب من كبار ملاك وأثرياء مصر؛ ومن بين قادة المعافرة الكبار .
2- بنو كاسر المدى : وهم أحد بطون المعافر بمصر، ولقد سموا بذلك نسبة إلى عبدالرحمن بن حيويل بن ناشرة ؛ والذى أطلق عليه هذا اللقب لما كسر مدى هشام سنة 117هـ ، وصار نسباً لبنيه بعد ذلك، أما والده “حيويل” فهو من رجال الفتح الإسلامى؛ وكان ممن وكل إليهم القائد “عمرو بن العاص” تقسيم الخطط سنة 21هـ ، ومن كبارهم كذلك ” مرة بن عبدالرحمن” من كبار أهل علوم الحديث النبوى، من المحدثين ، وتوفى بمصر عام 157هـ.
3- بنو سريع: وهم أحد بطون قبيلة المعافر، وكان لهم مسجد كبير في منطقة ” القرافة ” يقال له ” المسجد العتيق”، ومن أشهر رجال بطن بني سريع “أبو قبيل” من أئمة مصر المجتهدين ، كما كان مختصاً بالنبوءات؛ وقد توفى سنة 128هـ .
4- بنو خليف: وهم بطن من المعافر ومن أشهر رجالهم “صل بن عوف” أحد أشراف أهل مصر من كبار رجال الدولة والأثرياء ، ولقد كان ضمن وفد “عتبة بن أبي سفيان ” عندما اختلف مع أخيه معاوية سنة 43هـ .
5- بنو شعبان: وهم أصحاب نفوذ وأملاك ، وكانت تمر بأرضهم العين التى تسقى المعافر (كتاب الولاة 255:-256).
6- بنو بشر وقد اختطوا في المعافر؛ وهى القبيلة المذكورة في شعر “سعيد بن القاص”.
7- القرافة: بطن من المعافر ؛ وأطلق عليهم ذلك نتيجة موقعين نزلا بهما : الأول بالإسكندرية؛ والثانى بمصر، وهو – الآن – المقبرة المشهورة بهذا الاسم في القاهرة؛ وكان من كبارهم المشهورين: علقمة بن عاصم المحدث في القرن الثانى للهجرة بمصر؛ والمتوفى – حسب شواهد القبور- سنة 128هـ ؛ و ” أبو دجانة ” المحدث المعروف والمتوفى سنة 199 هـ ( كتاب الخطط للمقريزى ج4، ص 321:318 ؛ كتاب الأنساب للسمعانى ص 445، كتاب النجوم الزاهرة في أخبار مصر ص 36، القاموس المحيط ، قبائل مصر ، عبدالله خورشيد البرى، ص:167.
8- الأحمور: وهم بطن من المعافر، وذكرت في خطتهم؛ وكان عنده ” كوم الزينة ” ، وهم البطن الذى ذكره الشاعر سعيد بن القاص؛ فيما روينا من شعره في السابق.
9- الأعموق: وكان منها بطن يقال له ” لبوان ” ، ومن أشهر رجالهم “عقبة بن نافع المعافرى” المحدث والمتوفى بالإسكندرية سنة 196هـ .
10- الأهجور: وهم بطن من المعافر، ومنهم ” أبو الفرج بهد بن منصور” وكان محدثاً لمسجد الأهجور؛ وتوفى عام 148هـ.
11- ثوجم: وهم بطن من المعافر، ومن مشاهيرهم “عمرو بن مرة ” من كبار أهل مصر في القرن الأول الهجرى(كتاب الأنساب، السمعانى، ص 117) .
12- فوى: وهم بطن من المعافر منهم “سفيان بن هانئ بن خير ( الأنساب، السمعانى، ص 487) .
13- بنو كمونة: وهم بطن من المعافر ؛ وقد جرت دعوتهم في المعافر، ومن كبارهم ” على بن حسن الكمونى ” المتوفى سنة 298هـ .
هذه هى بطون المعافر التى استطعنا حصرها بمصر في القرون الأولى للهجرة . وهم أبناء عمومة قبيلة خولان من مالك من بني عدي .
وقد سكن المعافر في مناطق الارتباع؛ وكانت العصبية القبلية موضع اعتبار بوجه عام بحيث كانت القبائل المتقاربة تشترك في مرتبعات واحدة مثل : بلى ولخم وجذام؛ غفار وأسلم؛ آل عمرو وآل عبدالله بن سعد، وقد يكون للقبيلة الأكثر عدداً العديد من المرتبعات مثل: بلى؛ المعافر، تجيب، ولقد كان الهدف من الارتباع هو الراحة للجنود، وإطعام الخيل وتسمينها وإكرامها، فهى عدتهم للنصر؛ وهى جنتهم من عدوهم، وبها مغانمهم وأنفالهم، كما أوصاهم عمرو بن العاص في خطبته بالعناية بأقباط مصر، وأن يكفوا أيديهم عن المصريين، ولا يتعرضوا لأعراضهم وأموالهم ونسائهم، كما دعاهم للاستجمام والراحة كى لا يمل الجنود من كثرة الحروب ، ولقد نزل كثير منهم أطراف: خربتا، صان الحجر، وأبليل، طرابية، من “الحوف الشرقى لمصر” ؛ لذا أطلق عليهم ” أهل الحوف”، وحول الفسطاط ، ووسط الدلتا وشرقها وشمالها، وانتشروا في الصعيد كذلك، وفى الإسكندرية والبحيرة وأغلب القرى المصرية.(كتاب فتوح مصر ص 139-141، كتاب ” ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة ج1 ص 72-74 ، ويرجع إلى كتاب: ابن عبدالحكم : فتوح مصر: 141-143 ) .
وبعد أن فتحت البلاد، وتم إنشاء العواصم الجديدة نشط الأفراد إلى الانتقال إلى الجهات التى يؤثرونها فانضموا إلى قبائلهم فيها، واستقروا بها ، ولمقابلة هذا التغير المستمر اضطر “معاوية بن أبى سفيان ” إلى أن يجعل على كل قبيلة من قبائل العرب في الأمصار كالفسطاط رجلاً؛ وكان على رأس قبيلة المعافر في مصر رجل يقال له “الحسن” يصبح كل يوم، فيدور على مجالس القبيلة حيث يجتمع رجالها فيقول : “هل ولد فيكم الليلة مولود، وهل نزل بكم نازل ؟ فيقال : ولد لفلان غلام، ولفلان جارية ، فيقول : سموهم، فيكتب ويسجل الأسماء ليخصص لهم نصيب من العطاء. ( كتاب ابن الحكم: فتوح مصرص 102، كتاب السيوطى : حسن المحاضرة ص:1-75 ، كتاب الولاة ص :77 ، كتاب الخطط للمقريزى ص 198) .
وقد قدم الكثير من القبائل القحطانية مع جيش الفتح الإسلامى لمصر – كما أسلفنا – ومنهم قبائل مضر من سائر بنى عدنان، ومنهم من القحطانيين من سائر القبائل اليمنية؛ ولقد اختطت هذه القبائل الفسطاط – أى سكنت هناك – في أسفل التل، وأعالى الجبل المطل على بركة الحبش، وهو التل الذى أقامت على سفحه قبائل حمير والمعافر القحطانية (انظر كتاب السمعانى : الأنساب ص 533، كتاب ابن الحكم : فتوح مصر ص 127؛ كتاب الولاة والقضاة للكندى ص 79).
كما يذكر معجم ” القاموس المحيط للمرزبانى ؛ في مادة السك أنه كانت لكندة بطون في مصر ومنها : ( السكاسك) حيث كان جدهم سكسك ملكاً؛ وكانوا ممن ساعدوا معاذاً الذى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب أهل اليمن إلى الإسلام؛ فدعا لهم النبى بالمغفرة وعدهم في خير القبائل، ولقد قدم السكاسك من الشام في زمن عمر بن الخطاب ، ونزلوا ” وادى السكاسك ” بالأردن ، كما شهدوا فتح مصر ؛ واختطوا في المعافر . لكن لم يظهر واحد منهم في مصر .( انظر كتاب الأنساب للسمعانى، ص 300، فتوح مصر ص 127، النجوم ج1 ص 110).
كما نجد من شعراء عفير الشاعر “سعيد بن عفير” والذى سجل بشعره مواقف الحديجيين لنصرة المظلوم وشجاعتهم واعتدادهم بنسبهم ؛ فقد آثر هبيرة بن هاشم الموت على تسليم جاره الطائى لأهل الحرس من أنصار العثمانيين، وكان لهذا السلوك العربى الفطرى الأصيل أكبر الأثر لدى الشاعر سعيد القاص العفيرى وقد سجله في شعره ( فتوح مصر ص 143) .؛ ولقد هاجر كثير من المعافر مع قبيلة تجيب بعد فتح قصر بابليون إلى بلاد المغرب العربى؛ وفى برقة الغربى مع غيرهم من بطون العرب اليمنيين، ثم ساروا إلى إسبانيا؛ وكان لهم نفوذ بعد ذلك هناك في عهد ملوك الطوائف بالأندلس؛ وفى عهد الخلفاء الأمويين سواء بسواء .( كتاب المستشرق انسى، Ence.lsl.H,P.1019& IV,P.819).
اشترك المعافرة مع أفراد من قبيلتى لخم وجذام وبعض الفلاحين بمصر في ثورة مشتركة سنة 216هـ أسفل الأرض الكبرى ضد السلطات الحاكمة في عهد المعتصم، فقام المعتصم بتجريد العرب في الديوان من صفتهم الحربية كغزاة، ومنع عنهم الامتيازات وحوّلهم إلى مواطنين عاديين، مما جعل الزعيم العربى ” يحيى بن الوزير الجروى ” يجتمع مع جموع قبيلتى لخم وجذام ومنهم العفر للقيام بثورة ضد المعتضد فقال : “هذا أمر لا نقوم في فضل منه، لأنه منعنا حقنا وفيئنا ” ، لكن لم يستمع إلى دعوته سوى خمسمائة رجل ، وقامت معركة بين الثوار ووالي مصر التركى في ” بحيرة تنيس ” في جمادى الأولى سنة 219هـ ، وتم أسر الجروى ، وانتهت آخر ثورة عربية .
ولعله من الطبيعى أن تكون خيبة أمل ” ابن عفير” كبيرة عندما يخون المطلب الخزاعى جوار ابن بشر الأنصارى، أى أنه كان حزيناً فقد أجاره الرجل ( طلب الجيرة وهى من صميم القضاء العرفى ) إلا أنه لم يقبل إجارته، فافتداه الرجل بنفسه، وقُتل دفاعاً عن الرجل الذى أجاره في بيته، وحماه لمدة سنة كاملة؛ ولقد أكمل ابن عفير القصيدة فقال:
أرى كل جار قد رمى بجواره وخان أبا بشر جوار ابن مالك
وكان الشاعر ابن عفير رجلاً صاحب كلمة فهجا أهله من بنى قحطان نتيجة هذه الحادثة التى تعد عيباً في تقاليد العرب، وفى القضاء العرفى، فأنشد يهجو قومه قساة القلوب ، وهو – من قبل – المتعصب لقحطان وقضاعة؛ فقال :
أخبر بنى قحطان في مصر أننى رأيتهم لا يحفظون لهم أصرا
ومن مآثر شعر ” سعيد بن عفير” التى نسوقها – هنا – والتي تدلل الشواهد التاريخية على قوة العفر بين القبائل، فالشعر هو ديوان العرب الذى يعد أحد مصادر التاريخ الذى حفظ تاريخ القدماء، ويذكر أصحاب كتب : الولاة، والقضاة، ووفيات الأعيان، والخطط، معجم البلدان، فتوح مصر، بأن الشاعر ” ابن عفير ” قد ضاق بالحسين بن جعيل أمير مصر، وصاحب شرط الهنائى سنة 191هـ فذمهم بما كان شائعاً عن قبائلهم في جزيرة العرب منذ القدم، فقال :
أمما الأمير فحناج، وصاحبه على الخراج سوادىٌّ من الأُكر
وما هناءة إلا ظلف ذى يمن والباهليون مأوى اللؤم من مضر
ولما تمردت قبيلة المعافر – كما يذكر صاحب كتاب فتوح مصر – ذات الميول المعادية للأمويين بعامة على هشام إذ رفضت الاعتراف بالمدى – في أمر المكاييل – والذى أمر باستعماله سنة 117 هـ ، بل إن المعافر لسطوتهم وقوتهم وجبروتهم لم يكتفوا بتكسير الأوامر – لأنهم لا يخضعون لأحد – فقاموا بكسر المدى الذى بعثه الخليفة ، ولقد سجل ذلك شاعر المعافر دليلاً على الفكر بكسرهم أوامر الخليفة؛ فقال مادحاً قبيلة المعافر، قومه :
قومي الذين تبادروا مدى الخليفة بالحجر
وتحزبوا وتعصبوا وجثوا عليه فانكسر
من بعد ما زلت له أعناق يعرب بل مضر
وهذا يشير إلى حرية الرجل العفرى، وتحزبه إلى البداوة، والخروج من سلطان الدولة، وأوامرها، لأنهم من سلالة الملوك من لخم .
ولقد وجدنا ذكراً كثيراً للمعافر في كتب التاريخ، وفى “خطط الفسطاط ” سنة 21هـ ، وقد كانت القبيلة على رأس القبائل التى تزينت بها الخرائط المصرية القديمة (كتاب خطط الفسطاط ؛ كتاب مصر في فجر الإسلام، للدكتورة / سيدة إسماعيل كاشف، وتدلل الخرائط إلى أماكن القبائل، ومواطن ارتباعهم، وتمركزاتهم، وقوة البدو الفاتحين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر منذ فجر التاريخ، ولقد حفرت قبائل العفر اسمها بحروف من نور، وبماء الذهب في التاريخ المصرى، كما حفرته بعد ذلك وإلى الآن في قارتي إفريقيا، وآسيا، وفى أوروبا، وانتشر العفريون في أقاليم العالم .