«صوت القبائل» تكشف تفاصيل رحلة العائلة المقدسة في مصر
من الناصرة إلى سيناء ومحافظات مصر
تحقيق يكتبه: حاتم عبدالهادي السيد
عضو اتحاد كتاب مصر
الصورة للفنان التشكيلي عماد جورج
«خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس». بهذه الكلمات تحدث الإنجيل عن رحلة السيد المسيح والسيدة مريم العذراء إلى مصر، التي سطرت صفحة جديدة في تاريخ مصر .
مقدمة تاريخية :
بدأت رحلة العائلة المقدسة من منطقة الناصرة ” دير لحم ” بفلسطين؛ ثم سارت إلى غزة ورفح والعريش؛ ثم اتخذت طريق ساحل البحر المتوسط ؛مرورًا ببئر العبد ومراكز وقري سيناء حتي منطقة بالوظة؛ بالفرما من أرض سيناء المصرية؛ ثم إلي مصر .
قبل نحو ألفي عام، شقت السيدة مريم العذراء الطريق إلى مصر بصحبة ابنها السيد المسيح، ومعهما يوسف النجار؛ هربا من بطش هيرودس، وعلى مدار خمس سنوات، طافت العائلة المقدسة عدة مناطق في مصر، لتصبح هذه الرحلة التاريخية إرثا روحيا يتلمس أثره أتباع الديانة المسيحية حول العالم .
ولقد أصبحت مكانة هذه الرحلة العالمية محل اهتمام الحكومة المصرية، لتدشن مشروعًا سياحيا أطلقت عليه مسار العائلة المقدسة. حيث تُعتبر هذه الرحلة أول رحلة حج مسيحي من فلسطين إلي مصر والعودة إلي الناصرة ودير لحم مرة أخرى.
لقد استغرقت زيارة العائلة المقدسة إلى مصر 3 سنوات، وقد رصد البابا “ثاؤفيلس” البطريرك رقم 23 في كرسي الكرازة المرقسية بمصر في الفترة ما بين 385-412م بداية تاريخ الرحلة التي تبدأ من دير لحم بفلسطين؛ ثم أولى محطاتها في سيناء ؛ وفقا لمخطوطة ” الميمر” (وهى كلمة سيريانية تعني السيرة)، كما أشار إلي أهم المحطات الرئيسية في رحلة العائلة المقدسة، بداية من “الفرما” بسيناء ؛والتي كانت تعرف بـ”البيليزيوم”، أو مدينة بوليزيوم – وهي القرية التي تقع على خط النيل البيلوزي؛ عند قرية ” بالوظة ” – بشمال سيناء الآن – وهي المدينة الواقعة بين مدينتي العريش وبورسعيد حاليًا، وامتدت مسيرة العائلة المقدسة حتى جبل قسقام بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، ودير المحرق؛ ثم رجعوا مرة أخرى إلى فلسطين؛ بعد وفاة الملك هيرودوس عن طريق سيناء .
وبعد عبور العائلة المقدسة سيناء والوصول للفرما اتجهت إلى المحطة الثانية وهي” تل بسطا” بالقرب من الزقازيق، وبسطا هي النطق الهيروغليفي لكلمة “باستت”، ومعناها بيت الإله باستت، ثم ” بلبيس” وتوجد بها شجرة استظلت تحتها السيدة العذراء، ثم “منية جناح” وهي منية سمنود حاليا، ومنها عبرت العائلة البحر إلى سمنود، ثم البرلس، واتجهت بعدها إلى “سخا إيسوس”، وهى مدينة سخا حاليا في محافظة كفر الشيخ شمال مصر، ثم اتجهت غربا نحو “وادي النطرون”، والذي صار بعد ذلك مركز تجمع رهباني كبير تحت اسم “برية شيهيت” المهد الأول للرهابنية في العالم . ووصلت العائلة المقدسة – بحسب الموسوعة الحرة ويكبيديا – إلى عين شمس أو مدينة “أون” المعروفة بـ”هليوبوليس”، ومكانها منطقة “المطرية” في القاهرة حاليا؛ والتي كانت قديما مركزا ضخما لعبادة الإله رع إله الشمس عند المصريين القدماء، ويقال إن المسيح أنبع فيها عين ماء وباركها، وغسلت مريم العذراء ملابس المسيح في هذه البقعة، ثم صبّت الماء على الأرض فأنبتت شجرة بلسم، وتستخدم خلاصة البلسم في إعداد زيت “الميرون المقدس” الذي يستخدم في الكنائس حتى اليوم
وتوجه السيد المسيح والسيدة مريم العذراء بعد ذلك إلى مصر القديمة حيث سكنا بالمغارة التي توجد حاليا تحت كنيسة “أبو سرجة” على أطلال حصن بابليون، ثم إلى المعادي، ومن هناك ركبا مركبا إلى الجنوب، وتحديدا البهنسا بمركز بني سويف حاليا، ومن هناك اتجها إلى محافظة المنيا ثم عبرا نهر النيل إلى الضفة الشرقية حيث جبل الكف الذي انطبع فيه كف المسيح، ثم إلى الأشمونيين بمدينة ملوي.
واتجهت العائلة المقدسة من المنيا إلى أسيوط، حيث مكثت هناك لأكثر من 6 أشهر، وهي أطول فترة قضوها في أي مكان في مصر، حيث زارت مدينة “فيليس” وهي مدينة ديروط الشريف حاليا، وبعدها اتجهت إلى القوصية، ومنها إلي ميرة ثم إلي جبل” قسقام”، وفي نفس المكان المقام فيه حاليا دير السيدة العذراء الشهير بـ “المحرق”، ومن هناك عادت العائلة المقدسة مرة ثانية إلي فلسطين وسلكت نفس المسار تقريبا بعد أن قضت في مصر 3 سنوات تقريبًا.
ويمثل مسار العائلة المقدسة أهمية خاصة للسياحة الدينية الداخلية، حيث تمثل المحطات الرئيسية التي باركتها العائلة المقدسة في الإقامة بها أعيادا ومناسبات واحتفالات شعبية طوال العام.
ولقد كشف الباحث والخبير في الآثار والتاريخ المصري أ/ مجدي شاكر، كبير الآثاريين بوزارة الآثار عن أن رحلة العائلة المقدسة في مصر تتضمن حوالي 25 مسارا تمتد لمسافة ٢٠٠٠ كيلومتر من سيناء حتى الصعيد.
وقال إن العائلة لم تستقر فى مكان واحد؛ لذا يوجد العديد من الأديرة والكنائس، وذلك موثق من خلال المصادر الدينية والمخطوطات النادرة فى الأديرة والكنائس، مضيفًا: «تراوحت الرحلة من أسبوع أو بضعة أيام في بعض المدن، وفي أخرى استقرت شهرا وأطول مدة فى جبل قسقام وامتدت 185 يوما».
وأضاف: «بعد أن أمر الله العذراء بأن تهرب بوليدها من بطش هيردوس متجهة لمصر، كانت هناك ثلاثة طرق تجارية وحربية معروفة يمكن أن يسلكها المسافر فى ذاك الوقت، فتجنبت الطرق المعروفة واختارت طرقا مجهولة، وبدأت الرحلة التى انقسمت لثلاث مراحل:
«الأولى تضمنت العريش والفرما وتل بسطا ومسطرد وبلبيس وسمنود وسخا ووادى النطرون»، مضيفا: «بدأت الرحلة من مدنية رفح ثم العريش ثم الفرما، وكانت محطة العائلة المقدسة الأخيرة فى سيناء، وكانت مكانًا هامًا للرهبنة، ثم اتجهت للقنطرة؛ وكان يحكم مصر جانيس توانيوس الحاكم الرومانى، ثم وصلت قرب الإسماعيلية حيث تفجر نبع ماء ثم اتجهوا غربا لوادى الطميلات، ووصلوا لمدنية هيرون بوليس قرب أبوصوير”
ثم القصاصين ثم لقنتير “بر رمسيس القديمة حيث أمضوا به 3 أيام”، وغادروها لصفط الحنا لليلة واحدة فى ضيافة احد المواطنين، ثم اتجهوا إلى تل بسطا، حيث دمرت تماثيلها ونبع بئر ماء بها؛ بعد رفض أهلها اعطاء ماء للعذراء، فرسم المسيح بيده على الأرض فنبع البئر وبنيت كنيسة ثم اتجهوا لبلبيس، حيث استراحوا تحت شجرة جميز ظل الناس يحجون لها حتى عام ١٨٥٠، ثم تم قطعها وبنى مكانها مسجد عثمان بن الأنصارى وزارها نابليون بونابرت بعد ذلك.
ثم اتجهوا لمحافظة الغربية حيث مدينة سمنود واستراحوا بها تحت شجرة جميز بنى مكانها كنيسة للعذراء والشهيد أبانوب فى القرن الرابع الميلادى، وبها بئر ماء بجواره ماجور قيل أن العذراء عجنت فيه الخبز، ثم كنيسة باسم القديس انبوب البهنسى يحج إليها سنويا 31 يوليو احتفالا بمولده،ثم اتجهوا لقرية سخا وبنى مكانها كنيسة ويحج لها سنويا يوم 22مايو،ثم عبروا النيل غربا عند دسوق واتجهوا جنوبا لمحافظة البحيرة،حتى وصلوا طرانة قرب الخطاطبة ثم وادى النطرون فى منطقة برية شيهيت،حيث أقيم به 500دير تبقى منهم أربعة هي القديس أبو مقار والأنبا بيشوى والسريان والبراموس، ثم عبروا النيل جنوبا حتى وصلوا القناطر الخيرية.
ولقد تضمنت المرحلة الثانية مدينة أون (هليوبوليس) المطرية وعين شمس،وكان يسكنها ألفين من اليهود واستراحت العائلة تحت شجرة جميز وهناك شهدت معجزة أن أخذ المسيح العصا التى كان يتوكأ عليها يوسف النجار وكسرها قطعا،وغرسها ووضع يده فى الأرض فنبع الماء وخرج نبات البلسان الذى يستخرج منه زيت البلسم ذو رائحة ذكية، ومازالت بقايا البئر والشجرة هناك داخل متحف مفتوح باسم متحف شجرة مريم، وهناك توجد بقايا الشجرة وعليها أسماء لجنود الحملة الفرنسية الذي سجلوها بعد شفائهم من مرض الرمد الصديدى، عقب غسل وجههم من ماء البئر، وكذلك يوجد المزود الذى غسلت فيه السيد المسيح،ثم اتجهت العائلة حيث باب زويلة وكنيسة العذراء وبها بئر ماء ويحتفل بعيد كبير20يونيو، ثم اتجهوا لأبواب بابليون (مصر القديمة) حيث كنيسة أبى سرجة الأثرية المعروفة باسم الشهيدين سرجيوس وواخيس، ثم ركبت مركب نيلى للمعادى حيث كنيسة العذراء بها».
أما المرحلة الثالثة لرحلة العائلة المقدسة فقد بدأت عندما ركبوا المركب للوجه القبلى، حيث بدأوا بمدنية منف ثم البهنسا وبها دير الجرنوس وكنسية مريم وبها بئر، ثم إلى جبل الطير وهو من أهم محطات العائلة بعد أبى سرجة والمحرق،حيث أسس دير العذراء بجوار جبل الكف وهى كنيسة نحتت فى الصخر، ويقام هناك أحتفال يحضره الآلاف، وهناك حدثت معجزة منع المسيح صخرة كانت ستسقط منه، ثم الأشمونين واتجهوا لديروط بأسيوط فالقوصية فدير المحرق عند جبل قسقام وهو أهم محطات العائلة، حيث قضوا بها ستة أشهر وعشرة أيام واسسوا أول كنيسة فى مصر والعالم، والآن بها دير العذراء وبقايا الكنيسة الأثرية ثم انتهت الرحلة فى جبل درنكة وبه مغارة منحوته فى الجبل،وهى آخر المحطات للعائلة، حيث ظهر الملاك ليوسف النجار وأمره بالعودة لفلسطين».
ولقد«استمرت الرحلة عامين وستة أشهر وعشرة أيام وعادت العائلة من القوصية للمعادى بالنيل ثم لحصن بابليون حيث كهف أسفل كنيسة ابوسرجة، ثم شمالاً لمسطرد ثم لبلبيس ثم القنطرة ثم لفلسطين مرورا بسيناء وبغزة وأخيرا استقروا فى الناصرة، وكل الأماكن التى استقروا بها أقيمت عليها فيما بعد آثار سواء أديرة أم كنائس، وتعتبر مناطق جذب سياحي، وهذا المسار تاريخى ويجب أن يضم للتراث العالمى في اليونسكو، خاصة أنه يضم الكثير من الأديرة والكنائس القديمة وآبار المياة ومخطوطات وأيقونات هامة.