آخرها حرب فبراير الجاري.. تاريخ الصراع السياسي والعسكري بين روسيا وأوكرانيا
أسماء صبحي
أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس الماضي، بشأن بدء “عملية عسكرية واسعة” في إقليم دونباس بأوكرانيا حالة من القلق على المستوى العالمي، وتساؤلات كثيرة حول أن تكون هذه الحرب بداية للحرب العالمية الثالثة، وفور إعلان الرئيس الروسي، بدأت قوات روسيا عملية عسكرية شاملة، وكانت البداية بسماع دوي 6 انفجارات ضخمة في مدينة خاركيف الأوكراني، كما أفادت عدة تقارير بأن القوات الروسية اتجهت نحو أوكرانيا من جهة شبه جزيرة القرم.
بداية أزمة روسيا وأوكرانيا
يرجع تاريخ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا إلى العصور الوسطى، حيث أن كلا البلدين تمتلكان جذورً في الدولة السلافية الشرقية التي تعرف بـ “كييف روس”، لذلك يتحدث الرئيس الروسي بوتين دائمًا عن “شعب واحد”.
وعلى مر التاريخ، اختلف مسار هاتين البلدين، ونتج عنه لغتان وثقافتان مختلفتان رغم قرابتهما، وبينما تطورت روسيا سياسياً إلى إمبراطورية، لم تتمكن أوكرانيا في بناء دولتها، وتحولت مساحة شاسعة من أوكرانيا الحالية إلى جزء من الإمبراطورية الروسية في القرن السابع عشر، إلا أنه بعد سقوط الإمبراطورية الروسية عام 1917، استقلت أوكرانيا لفترة وجيزة، قبل أن تقوم روسيا السوفييتية باحتلالها عسكرياً مجدداً.
استقلال أوكرانيا
وفي نهاية عام 1991، كانت أوكرانيا وبيلاروسيا، من بين الدول التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفييتي، وأرادت موسكو حينها الاحتفاظ بنفوذها من خلال تأسيس رابطة الدول المستقلة “جي يو إس”، وتوقع الكرملين حينها أن يمكنه السيطرة على أوكرانيا عن طريق شحنات الغاز الرخيص، لكن ذلك لم يحدث، حيث تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائماً على الغرب.
وأثارت أوكرانيا غضب الكرملين بميلها للغرب، إلا أن الصراع لم يصل إلى ذروته طوال فترة التسعينيات، وحينها كانت موسكو هادئة، لأن الغرب لم يكن يسعى لدمج أوكرانيا، كما أن الاقتصاد الروسي كان يعاني، والبلاد كانت مشغولة بالحرب في الشيشان، واعترفت موسكو رسمياً من خلال ما يسمى بـ”العقد الكبير” بحدود أوكرانيا في عام 1997، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية.
وفي مطلع التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة أسلحة نووية في العالم، وعملت الولايات المتحدة وروسيا على نزع الأسلحة النووية الأوكرانية، وتخلّت كييف عن مئات الرؤوس النووية إلى روسيا، مقابل ضمانات أمنية لحمايتها من هجوم روسي محتمل.
أول أزمة دبلوماسية كبير
وفي خريف 2003، شهدت موسكو وكييف أول أزمة دبلوماسية كبيرة حديثة بينهما في عهد فلاديمير بوتين، حيث بدأت روسيا بشكل مفاجئ في بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة “كوسا توسلا” الأوكرانية، واعتبرت كييف ذلك محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين، وازدادت حدة الصراع، ولم يتم وضع حد له إلا بعد لقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني، وعقب ذلك أوقف بناء السد، لكن الصداقة المعلنة بين البلدين بدأت تظهر تشققات.
وأثناء انتخابات الرئاسة في أوكرانيا عام 2004، دعمت روسيا بشكل كبير المرشح المقرب منها، فيكتور يانوكوفيتش، لكن “الثورة البرتقالية” حالت دون فوزه المبني على التزوير، وفاز بدلاً منه السياسي القريب من الغرب، فيكتور يوشتشينكو، وأثناء فترته الرئاسية قطعت روسيا إمدادات الغاز عن أوكرانيا مرتين، في عامي 2006 و2009، كما قُطعت أيضاً إمدادات الغاز إلى أوروبا المارة عبر أوكرانيا.
وفي عام 2008، حاول الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج دبليو بوش، إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري، لكن قوبل ذلك باحتجاج بوتين، وموسكو أعلنت بشكل واضح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا، كما حالتا كل من فرنسا وألمانيا دون تنفيذ خطة بوش، وخلال قمة “الناتو” في بوخارست تم طرح مسألة عضوية أوكرانيا وجورجيا، ولكن لم يتم تحديد موعد لذلك، ولأن مسألة الانضمام للناتو لم تنجح بسرعة، حاولت أوكرانيا الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي.
وبعد مرور أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية، ضغطت موسكو اقتصاديا على كييف وضيّقت على الواردات إلى أوكرانيا، وعلى خلفية ذلك، جمّدت حكومة الرئيس الأسبق يانوكوفيتش، الذي فاز بالانتخابات عام 2010، الاتفاقية، وانطلقت بسبب ذلك احتجاجات معارضة للقرار، أدت لفراره إلى روسيا في فبراير عام 2014.
روسيا تضم القرم
وفي مارس عام 2014، قامت موسكو باستغلال فراغ السلطة في كييف لضم القرم، وكانت هذه علامة فارقة وبداية لحرب غير معلنة، وفي ذات الوقت، بدأت قوات روسية شبه عسكرية في حشد منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا من أجل انتفاضة، كما أعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك، يترأسهما روس.
وقررت الحكومة في كييف إطلاق عملية عسكرية كبرى أسمتها “حرب على الإرهاب” بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في مايو 2014، والتقى الرئيس الأوكراني المنتخب للتو، بيترو بوروشينكو، وبوتين لأول مرة بوساطة ألمانية وفرنسية في يونيو 2014، على هامش الاحتفال بمرور 70 عاماً على يوم الإنزال على شواطئ نورماندي، وخلال ذلك الاجتماع وُلدت ما تسمى بـ”صيغة نورماندي”.
وهزمت الفرق العسكرية الأوكرانية قرب إيلوفايسك، وهي بلدة تقع شرق دونيتسك، وكانت لحظة محورية، لكن الحرب على جبهة موسعة انتهت في سبتمبر بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك.
حرب بالوكالة في دونباس
تحول الصراع بين روسيا وأوكرانيا بعد هذا الاتفاق إلى حرب بالوكالة تدور رحاها حتى اليوم، وفي بداية عام 2015، شن الانفصاليون هجوماً، زعمت كييف أنه كان مدعوماً بقوات روسية لا تحمل شارات تعريف، وهو ما نفته موسكو.
وتعرضت القوات الأوكرانية للهزيمة مرة أخرى جراء الهجوم، وذلك في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجية، والتي اضطر الجيش الأوكراني للتخلي عنها بشكل أشبه بالهروب، وآنذاك– وبرعاية غربية– تم الاتفاق على “مينسك 2″، وهي اتفاقية تشكل إلى اليوم أساس محاولات إحلال السلام، وما تزال بنودها لم تنفذ بالكامل بعد.
وكان هناك بصيص أمل في خريف عام 2019، إذ تم سحب جنود من الجهتين المتحاربتين من بعض مناطق المواجهة، لكن منذ قمة النورماندي التي عقدت في باريس في ديسمبر عام 2019، لم تحصل أي لقاءات، فبوتين لا يرغب في لقاء شخصي مع الرئيس الأوكراني الحالي، فلودومير زيلينسكي، لأنه– من وجهة نظر موسكو– لا يلتزم باتفاق مينسك.
ومنذ ديسمبر 2021، ويطلب بوتين بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو حصولها على مساعدات عسكرية، لكن الحلف لم يرضخ لهذه المطالب، وانزعجت روسيا بشدة من فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بل ويمثل ذلك خطاً أحمر بالنسبة للرئيس الروسي بوتين.
ويعزد ذلك إلى أنه وفقاً للفصل الخامس من اتفاقية “الناتو”، فإن أي هجوم يتعرض له عضو في الحلف يعتبر هجوماً على الحلف بأكمله، ما يعني أن أي هجوم عسكري روسي على أوكرانيا يعني وضع موسكو في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، والدول الـ27 الأعضاء في الحلف.
وقام بوتين باختبار أمريكا والغرب في الأزمة الأوكرانية مراراً، الأولى في ربيع 2021، عندما حشد بعض القوات والعتاد العسكري على الحدود، وأدى ذلك إلى انتباه الولايات المتحدة، والتي سعت لإجراء مباحثات بين بوتين وبايدن، وبعد ذلك بأيام سحبت روسيا قواتها.
وتغيرت نظرة بوتين حينها إلى الولايات المتحدة، وخاصة بعد الانسحاب العسكري الفوضوي الأمريكي من أفغانستان، والاضطرابات التي تعانيها أمريكا على الصعيد الداخلي، في أعقاب الاستقطاب الذي شهدته بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو ما تراه موسكو أنها مؤشرات للضعف الأمريكي.
كما يرى بوتين الغرب في حالة انقسام شديد بشأن دور الولايات المتحدة في العالم، ولا يزال بايدن يحاول إعادة توحيد التحالف عبر الأطلسي، بعد حالة انعدام الثقة التي تراكمت خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأدت بعض أخطاء بايدن الدبلوماسية إلى نفور الشركاء الأوروبيين، وتحديداً الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، واتفاق الغواصة النووية الذي طرحه بايدن مع بريطانيا وأستراليا، وكان مفاجأة بالنسبة لفرنسا.
بداية حرب فبراير 2022
ومنذ نوفمبر الماضي، وبدأت روسيا في نقل أعداد هائلة من قوات جيشها إلى المناطق القريبة من الحدود الأوكرانية، وباتت الحرب على المحك بشكل أكبر مع تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه سيعترف باستقلال المنطقتين الأوكرانيتين اللتين يسيطر عليهما انفصاليون مدعومون من روسيا، كما قال إن أوكرانيا ليس لها تاريخ بوصفها بلدا حقيقيا، واتهم السلطات الأوكرانية بالفساد، وبعد هذا التصريح، وقع الرئيس بوتين على أوامر أصدرها لقواته بتنفيذ “مهام حفظ سلام” في كلتا المنطقتين.
وفي 15 فبراير الجاري، وبعد أن وصل عدد تلك القوات إلى 100 ألف، أعلن الرئيس بوتين عن انسحاب جزئي للقوات الروسية، كما أكد متحدث باسم وزارة الدفاع الروسية أن بعض وحدات الجيش “بدأت بالفعل في تحميل معداتها على متن القطارات والعربات، وستبدأ اليوم العودة إلى ثكناتها العسكرية”، لكن، وفي أعقاب الإعلان الروسي، صرح ينس ستولتنبرج، الأمين العام لحلف الناتو قائلا: “إنهم يقومون باستمرار بتحريك القوات إلى الأمام وإلى الخلف.. لطالما تحركت القوات يمينا ويسارا، إلى الأمام وإلى الخلف وفي كل الاتجاهات، لكن الاتجاه الذي ظل ثابتا خلال الأسابيع والأشهر الماضية هو الزيادة المستمرة في القدرات العسكرية) الروسية على مقربة من حدود أوكرانيا”.