القاضي الفاضل.. الرجل الثاني في دولة صلاح الدين الأيوبي
أسماء صبحي
كان القاضي الفاضل الرجل الثاني في دولة صلاح الدين الأيوبي، وقد اعتمد عليه صلاح الدين في تدبير شئون دولته وتجهيز جيوشه وتأمين رعاياه، وفي تربية أبنائه. ولم تقتصر سيرة القاضي الفاضل على إدارته وسياسته وتدبيره، بل تعدّتها إلى الأدب من نثر وشعر. وقد ظلت كتاباته الرسمية من سجلات ورسائل نموذجًا تحتذي به الأجيال التي تلته، أيضًا حفظ لنا المؤرخين قسمًا من كتاباته بعضها تاريخي وبعضها أدبي.
نسب القاضي الفاضل ومولده
هو المولى، الإمام، العلامة البليغ، وشيخ البلاغة، وسيد الفصحاء ، أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن الحسن اللخمي، الشامي، البيساني الأصل. العسقلاني المولد، المصري الدار، الكاتب، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحي المعروف بالقاضي الفاضل وزير صلاح الدين. والملقب بمجير الدين، وبمحيي الدين ، ولد في مدينة عسقلان بفلسطين سنة 529هـ، 1135م.
ويقول عبداللطيف جنيدي، الباحث في التاريخ الاسلامي، إن القاضي الفاضل عاش نحو سبعة عشر عامًا من حياته في مدينة عسقلان في كنف والديه ودرس القرآن والحديث وغير ذلك من العلوم. ولأنه كان يحب الكتابة قصد مصر ليشتغل بالأدب، فاشتغل به وبرع فيه، وقال الشعر والمراسلات. ثم عمل في ديوان الإنشاء وظل يتدرج فيه إلى أن تولى رئاسته، ولما ملك أسد الدين شيركوه وزارة مصر أعجب به وبدينه فجعله كاتبًا له. ثم بعد ذلك استخلصه السلطان صلاح الدين لنفسه، وحسن اعتقاده فيه ووجد البركة في رأيه. ولذلك لم يكن أحد في منزلة القاضي الفاضل عند صلاح الدين .
دوره في دولة صلاح الدين
وأضاف أن القاضي الفاضل عمل كاتبًا وزيرًا للسلطان الناصر صلاح الدين وترقي في منزلته عنده. حتى أنه كان صاحبه ومشيره ونائبًا عنه في الحكم، وبعد وفاة صلاح الدين استمر على ما كان عليه في المكانة والرفعة عند سلاطين الدولة الأيوبية حتى وفاته. وقد شهد صلاح الدين نفسه بدور القاضي الفاضل الفكري والإداري البارز في تأثيره فيه وفي حكمه. وفي استرداد الأراضي المقدسة، فقال صلاح الدين في القول المأثور: “لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل”.
وقد شهد المؤرخون أيضًا بدور القاضي الفاضل في الجهاد، وبوقوفه إلى جانب صلاح الدين موقف إخلاص وصدق طوال حياته. وأطلق هؤلاء المؤرخون على القاضي الفاضل لقبين يمثّلان دوره في دولة صلاح الدين، فأشار إليه البعض بمحيي الدين. والبعض الآخر بمجير الدين، فهو محيي الدين لأنه ساعد صلاح الدين في القضاء على الخلافة الفاطمية الشيعية وإحياء المذهب السنّي في مصر. وهو مجير الدين لوقوفه إلى جانب صلاح الدين في تحرير بيت المقدس من الصليبيين وإعادته إلى حظيرة الإسلام. وأما لقب القاضي الفاضل حصل عليه في مصر لعلمه في الإدارة المصرية.
زهد القاضي الفاضل وعبادته
كان القاضي الفاضل رحمه اللّه كثير العبادة والتلاوة، يختم كل يوم وليلة، كثير المطالعة والصداقة والصلة. وذا دين وعفاف وتقى، ومواظب على أوراد الليل والصيام، كما كان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد. ومتقللًا في مطعمه ومنكحه وملبسه، ويكثر تشييع الجنائز، وعيادة المرضى، وله معروف في السر والعلانية. ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان أو الإعراض عنهم، وكان يستعين بآيات القرءان الكريم في كثير من رسائله.
بلاغته ورسائله
كان القاضي الفاضل واسع المعرفة والمطالعة، سريع الخاطر في الإنشاء، ونظرًا إلى مكانته الرفيعة بين معاصريه وعلمه وبلاغته. كان مجلسه حافلًا بمختلف العلوم وملتقى العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وقد مدحه الكثير من العلماء والمؤرخين بصفات تميّز بها مثل براعته في الكتابة وكفاءته في الإدارة وصواب رأيه وفطنته وفصاحته. فقال عنه الذهبي: ” انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل، وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفن اليد البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول”.
كما قال عنه الأصبهاني: ربّ القلم والبيان، واللّسن واللّسان، والقريحة الوقَّادة، والبصيرة النَّقادة، والبديهة المعُجِزة، والبديعة المطرَّزة، فهو كالشريعة المحمَّدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، أين قُسُّ عند فصاحته؟! وأين قَيس في مقام حصافته؟! ومَنْ حاتم وعمرو في سماحته وحماسته”.
وكانت رسائل القاضي الفاضل كثيرة، وكتبه كتبًا عظيمة حتى قيل: إنها كانت تزيد على مائة ألف مجلد. وقد بقي منها مجموعات، منها: ترسل القاضي الفاضل، ورسائل إنشاء القاضي الفاضل، والدر النظيم في ترسل عبد الرحيم. وله أيضًا ديوان شعر، وقد بنى بالقاهرة إلى جانب داره مدرسة ومكتبًا للأيتام، ووقف كتبه جميعها عليها. فقال ابن العماد الحنبلي: “كان له بمصر ربع عظيم يؤجَّر بمبلغ كثير، فلما عزم على الحج ركب ومر به ووقف وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الربع ليس شيء أحب إليّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى”.
وفاة القاضي الفاضل
توفي القاضي الفاضل رحمه الله في سنة 596هـ، 1200م، قال العماد الأصبهاني ناعيًا إياه: “وتمت في هذه السنة الرزية الكبرى والبلية العظمى وفجيعة أهل الفضل بالدين والدنيا. وذلك بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء”، ثم علق العماد على وفاته بقوله: “ومضى شهيدًا حميدًا، فكانت له بسيد الأولين والآخرين أسوة. فلم يبق في مدة حياته عملًا صالحًا إلا وقدَّمه ولا عهدًا في الجنة إلا أحكمه، ولا عقدًا في البر إلا أبرمه”.