المزيد

ذكريات زمان

في زمن ما كانت هناك 3 أشياء يلتف حولها المصريون؛ حين يخطب عبد الناصر وعندما تشدو أم كلثوم ووقتما يتلو الشيخ مصطفى إسماعيل كتاب الله.

 

 

في البدء كان صيف 1944، حين تقرر أن يصدح صوت الشيخ الوافد من طنطا في أثير الإذاعة لأول مرة. كانت رابطة القراء تحتفل بالمولد النبوي وطلب منه الشيخ الصيفي أن يحيي جزءا من الليلة عقب اعتذار القارئ الكبير عبد الفتاح الشعشاعي. تهللت أسارير الشاب الذي لم يكمل عامه الأربعون بعد، غير أن شرطا أصابه بالوجوم، وهو أن لكل قارئ نصف ساعة فقط.. تحير “إسماعيل” فكيف يقرأ تلك لمدة التي يعتبرها “تسخين” وهو المشهور بين محبيه بانطلاقة في التلاوة لساعات، قبلها كان لمصطفى إسماعيل “سميعة” ومريدين في بر الغربية منذ كان عمره 15 عاما، يطلبونه بالاسم. فيما ساق له القدر ما أراد في تلك الليلة النبوية المباركة.

 

 

تحسس الشاب الخطى نحو مسجد الحسين، أذان العشاء على بعد ساعة، دخل وهو يتمتم بالدعاء، وجد المسجد حافلا بالبشر، لمح وجوها ألفها في ليالي القاهرة الأولى فاطمئن قلبه، فيما لا يزال السؤال يطارده “هل تكفي نصف الساعة لإمتاع المستمعين؟”، وهنا جاءه صوت أنقذه، لم يكن صوتا فرديا بل لمئات حين قالوا “أقرا لنا جزء يا شيخ ولما يجي وقت الإذاعة كمل”، وكان الجزء تدريب قوي لصوت أبهر المتابعين بفعل طلب “السميعة”.

 

 

الطريف أن ليلة الشيخ مصطفى لم تنته عند حدود 30 دقيقة سمعه فيها الملايين، ولكن ما أبهج قلبه هو ما فعله الملتحفون بساحة المسجد حين هللوا وكبروا وقتا طويلا إعجابا بأدائه، وبينما أخذ نعله وشق صفوف الناس هاما بالرحيل، وجدهم يلاحقونه في مظاهرة، ولما وقف وقفوا معه، فمشى وانساقوا خلفه. فسألهم في توجس “ماذا تريدون؟”، فجاءت الإجابة شافية “نريد أن نسمعك مرة أخرى.. لم نشبع منك”، وبينما يتناقشون كانت أضواء مأتم كبير في شارع الأزهر قد لفتت الأنظار فدفعته الجماهير دفعا للسرادق وأجلسوه أعلى دكة المقرئ الذي انتهى لتوه، فانضم لجمهور الحسين أصحاب المأتم وظل صوت الشيخ مصطفى يدوي في سماء القاهرة حتى مطلع الفجر.

 

 

لم يكن صوت الشيخ مصطفى إسماعيل يجلجل إلا في وجود “السميعة” أولئك الذين استمد منهم إبداعاته، الذين ظلوا مرابطين أسفل دكة التلاوة مرددين الآهات. في مصر فقط يتعامل الجمهور مع نجمه المفضل كأحد أفراد أسرته، يضحي العشم وسيطا في العلاقة، وحين يمسهم الإعجاب يطلقون الصيحات ويطيلون المدح والغريب أن الأمر قد يتطور لسباب! ففي تسجيل نادر، ما أن هم الشيخ مصطفى بقراءة و”مريم ابنة عمران” حتى قال أحدهم “الله ينعل أبويا على أبو اللي جابك”.. بينما عقب آخر “دي الملايكة اللي بتقرا والله.. دي قالها إزاي دي”، ويصرخ ثالث “يا حلاوتك يا عسل أنت”.

 

 

وهنا لا يكون الأمر خروجا عن النص أو قدحا في موضع المدح وإنما اتساقا روحيا بين المصري ونجمه، وكان مصطفى إسماعيل نجما لا يشق له غبار. ظاهرة مجتمعيه عاش للناس وبالناس. 4 عقود كاملة حضر فيها “السميعة” من كل حدب وصوب. من فلاحي قرية ميت غزال لأعيان طنطا، من فتوات السيدة وصنايعية مصر القديمة وتجار عابدين لفناني الشرق الأوسط، من طلب الملك فاروق للقراءة في القصر، لتكريم عبد الناصر في أول وسام يناله قارئ في عيد العلم عام 1965 برفقة طه حسين وفكري أباظة وأم كلثوم وعبد الوهاب، وليس ختاما كقارئ السادات الأول بل ومعشوق رئيس مصر.

 

 

استوقف مذيع برنامج ما يطلبه المستمعون أحد المارة وسأله “تحب تسمع مين؟”، فرد على فوره “الشيخ مصطفى إسماعيل”، فعقب المذيع “بس ده برنامج أغاني”، غير أن المواطن ظل ثابتًا على رأيه “مبسمعش غير مصطفى إسماعيل”، حاول المذيع تغيير الموضوع أمام إصرار الضيف “طيب تحب توصل سلامك لمين”، فكانت المفاجأة “أوصل سلامي للريس السادات، قوله محمد عبد الرحيم اللي كان معاك في السجن بيسلم عليك، بأمارة ما كنا مع بعض في الزنزانة وبنقلد الشيخ مصطفى إسماعيل”.

 

 

قبل عام كامل من ليلة المولد النبوي بالحسين كانت أول دعوة يتلقاها الشيخ مصطفى من سميع يدعى محمد العوايجي يطالبه بإحياء مأتم والدته في القاهرة. وجاءت ليلته الثانية أكثر غرابة فقد طالبه أحد المعجبين بصوته أن يُحيي ثلاث ليالِ في حي الداودية وعلم من صاحب الدعوة أن الشيخ محمد سلامة سيشاركه القراءة، وكان معروفا عن ذلك الرجل أنه لا يترك مجالا لأحد يقاسمه القراءة ولو لدقائق، لكنه قبل الأمر.

 

بدأ الشيخ سلامة القراءة في تمام الثامنة، مرت ساعة وتلتها أخرى ولم يزل يقرأ حتى دقت الثانية عشر، بعدها هم بالانصراف وخرج معه أتباعه فبدا المكان خاويا، لكن المحترف الجديد في دنيا القاهرة لم تكن تعنيه المظاهر، وما أن بدأ التلاوة حتى جذبت حنجرته المئات فتراصوا داخل السرادق من جديد، وقرأ يومها 4 ساعات ونصف متواصلة.

 

 

“هذه الثلاثون دقيقة ليست هي مصطفى إسماعيل” هكذا كان يقول الشيخ الجليل لابنه الأكبر عاطف، ورغم الشعبية الجارفة التي منحته الإذاعة إياها، لكنه ظل كارها للغرف المغلقة شارحا الأمر “أنا محدش يدوس على زرار ويقولي أقرا”، حتى أنه طلب من الإذاعة أن تسجل تلاوته في الليالي بالمساجد وليس داخل الاستوديوهات. يحن دوما لجلوسه قبل محبيه، ينتشي بردود أفعالهم، وكانت علاقته بهم قوية للغاية، ففي مذكراته يسردهم بالاسم، من الأستاذ محمد خميس للسيد إبراهيم قاسم الذي جمع أغلب تراثه، والحاج إبراهيم الكحكي، والموسيقي أحمد خليل الذي أثر رحيله فيه جدا، في تسجيل نادر ينعي رحيله بكلمات “احنا جينا أهو يا عم أحمد يا خليل وقرأنا لك.. يارب تكون مبسوط وربنا يطول في عمرنا ونجيلك كل سنة”.

 

 

كان للشيخ تجليات، تختلف أشكالها بين مكان وآخر. لا يقرأ في مصر، مثلما يفعل في الشام، أو شمال إفريقيا. يعرف يقينًا أن “السمّيعة” ألوان؛ كان بعضهم بسيطًا يجذبه الصوت الجيد فحسب، وآخرون يحللون ذاك الصوت، وهم من تلقن عنهم “إسماعيل” في بداياته فنون المقامات، فكان يقرأ دون معرفة بهذا الفن الموسيقي، وكانوا إذ يجلسون أمامه يعلقون “دي بياتي يا شيخ.. أو صبا أو رست”. وثمة دول اتخذت من الشيخ علامة تهتدي بها في طريق القرآن، كالعراق وإيران تحديدًا، حتى أن الأخيرة بها مدرسة “الشيخ مصطفى إسماعيل”، التي تُعلم كتاب الله على نهجه.

 

 

حاول بعض كارهي الشيخ أن يُشنعوا في سمعة الرجل بأن ما يقوله ليس تلاوة للذكر وإنما خروجا عن النسق القرآني وأحكامه، غير أن ذلك لم يكن صحيحا وحاول آخرون إشاعة أنه موسيقى ضل طريقه للقرآن. ويحكي مصطفى إسماعيل في مذكراته عن أحد الصحفيين نشر في مجلة إن الشيخ يعزف على بيانو في منزله، فتعجب مصطفى إسماعيل من الإشاعة وفكر في إرسال تكذيب للمجلة ولم يفعل، ويقول مصطفى إسماعيل: أنا لا أعرف العزف على البيانو ولا غيره من الآلات الموسيقية. فقد كنت طول عمري مشغولا بالتلاوة، وهي أرقى وأشد تعقيدا، ثم يردف “الراديو هو الآلة الوحيدة التي أضع أصبعي عليها لأحرك مؤشرها لسماع القرآن الكريم”.

 

 

كان “سميعة” الشيخ درعا يحتمي به، ففي يوليو 1947 صار مصطفى إسماعيل قارئ الأزهر، غير أن الأمر أصاب بعض القراء بالغيرة، فما أن دخل ساحة الجامع العتيق، لم يجد دكة المقرئ ولا الميكروفون فعرف أحباؤه أن هناك مكيدة، فطلبوه منه أن يقرأ دون ميكروفون، فظهر 40 رجلا وحملوا أحدهم على الأكتاف وهو يقول “لا تسمحوا لهذا المطرب بتلاوة القرآن”، وقامت “عركة” في ساحة الأزهر انتصر فيها “سميعة” الشيخ على من عُرف بعدها أنهم مستأجرون من قبل شيخ آخر قتلته الغيرة. يومها اجتمع نحو ألفي شخص من أحباء الصوت العذب واتجهوا جمعاء يتقدمهم مصطفى إسماعيل صوب محل “العجاتي” لتناول الغذاء، حسبما يروي الناقد الكبير كمال النجمي في كتابه عن الشيخ الراحل.

 

 

رحل الشيخ المبدع بالفطرة، ولم يخنه الحظ بل سرقه من محبيه، بينما قال في حقه رياض السنباطي “كل اللي فتحوا حناجرهم من أيام عبده الحامولي للنهاردة مطربين ومقرئين ميجوش العُقلة الصغيرة في صُباع مصطفى إسماعيل”، وفي حضرته يقول عبد الوهاب “الشيخ لو فكر يغني أنا هبطل غُنى خالص عشان محدش يقدر يجاريه”، واعتمدت أم كلثوم على أذنه الموسيقية في تعديل لحن لها، وكان عمار الشريعي يصفه بكلمات بسيطة “حاجة تجنن.. احنا كموسيقيين منعرفش نفكر زيه”، بينما يتحدث عنه الملحن العراقي نصير شمّة في دار الأوبرا قائلًا: “لو عندنا ألف تسجيل للشيخ مصطفى إسماعيل نقدر نقول إن عندنا ألف مقطوعة موسيقية مستقلة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى